كتب: وليد فكري
"يا أيها الرجل المُحَوِل رَحله.. هلا نَزِلت بآل عبد منافِ الآخذون العهد من آفاقهم.. والراحلون برحلة الإيلافِ" أبياتٌ لمطرود بن كعب الخزاعي، تستخضر مصطلحاً نعرفه جيداً من الآيات القرآنية: "لإيلاف قريش/إيلافهم رحلة الشتاء والصيف"، في تدليل لتاريخ العرب فيما قبل الإسلام باعتباره حدثاً كبيراً أو نقلة تاريخية، فما هي حقيقته؟ وما جدوى إعادة الحديث عنه؟ بداية، يحتاج الحديث عن الإيلاف لاستعراض سريع للظروف التاريخية التي نشأ في ظلها. كانت الجزيرة العربية تنقسم سياسياً إلى ثلاثة أقسام، مملكة حِميَر اليمنية في الجنوب، تقاسي محاولات التغلغل الحبشي الذي تحول فيما بعد إلى احتلال كامل، وفي الشمال مملكتي الحيرة في العراق التابع للفُرس والغساسنة في الشام التابع لبيزنطة. وبين الجنوب والشمال مساحة تسكنها قبائل تأنف من الخضوع لنظام ملكي أو دولة خارجية مثل قريش في مكة والأوس والخزرج بالمدينة وغيرها، أو تجمعات للأعراب يعيشون في ضيق حال مما دفع كثير منهم لاحتراف حياة اللصوصية وقطع الطرق على القوافل. وبينما كان الجنوب ملتهباً بالصراع بين الحِميريين ودولة الحبشة (أثيوبيا) الغازية لليمن كان الشمال مشتعلاً بالحرب بين الفرس والبيزنطيين سواء بشكل مباشر أو من خلال "وكلاءهم" الحيرة والغساسنة. ذلك الوضع فضلاً عن أثره السلبي على أمان القوافل التجارية فإنه كذلك أدى لتعرض بعض المناطق لانقطاع بعض البضائع والسلع عنها نتيجة سيطرة الطرف المحارب لها على معابرها، بالذات تلك السلع القادمة من الهند ووسط آسيا. بالتالي كان لا بد من طرف يستطيع أن "يؤلّف" كل الأطراف لضمان استمرار حركة التجارة وعدم تأثرها سلباً بالوضع العام. ومن هنا جاءت فكرة الإيلاف في النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي.
هاشم بن عبد مناف بن قصيّ، وهذا الأخير هو مؤسس سيادة قريش على مكة، ورث الزعامة عن أبيه وجده. ولم يكن راضياً عن محدودية التجارة المكية التي كانت تعتمد على مجرد أسواق محلية تقام في الأشهر الحرم، لضمان عدم تعرضها لسطو أو هجمات، والتي كان يقتصر التداوُل فيها على مصنوعات داخلية للقبائل المشاركة في السوق. كان واضحاً أن مكة ليست مدينة منتجة ولكنها تستطيع أن تصبح "مدينة خادمة للتجارة الخارجية" لأسباب كثيرة، منها توسطها طرق التجارة بين الشمال والجنوب، كذلك لاجتماع العرب فيها في مواسم الحج وإكبارهم قريشاً باعتبارهم "أهل الله" لقيامهم بخدمة الكعبة، قدس أقداس العرب، وحجاجها. وخلال تعرض مكة لأزمة اقتصادية كبيرة ونقص شديد في الأقوات، قرر هاشم بن عبد مناف أن يبذل محاولة لتغيير وضع مدينته. كان هاشم قد اعتاد السفر للتجارة في الشام، سواء في سوقها "غزة" أو أحياناً في بعض أسواق الشمال مثل "بُصرى" وتقول الرواية أنه تعمّد عند دخوله أسواق الشام أن يذبح كل يوم ذبيحة ويصنع طعاماً لكل القافلة، وهو أمر ملفت للنظر، حتى بلغ صنيعه قيصر الروم الذي طلب إحضاره إليه ولقاءه. وبعد بضع لقاءات مع القيصر الذي أعجب بشخصيته، اقترح هاشم على الحاكم البيزنطي أن يمنحه كتاباً يفتح أسواق الشام أمام التجارة الآتية من مكة، وأن يمنح التجار المكيين تسهيلات في المرور والتحرك بين المدن الشامية التي يحكمها البيزنطيون، وكذلك فيما يخص المكوس (الجمارك) المفروضة عليهم، وأن يَفِد التجار من رعايا بيزنطة على أسواق العرب بتجارتهم، على أن يضمن هاشم تأمين الطريق لتلك التجارة بين مكة والشام ذهاباً وإياباً. "أيها الملك إن قومي تجار العرب، فإن رأيت أن تكتب لي كتاباً تؤمن تجارتهم فيقدموا عليك بما يستطرف من أدم الحجاز وثيابه فتباع عندكم فهو أرخص عليكم"، من حديث هاشم بن عبد مناف للقيصر.
كيف حققت قريش مكانة ونفوذاً استثنائياً بعد ترؤسها الإيلاف وضمانها أمان تجارة المنطقة
مشروع "الإيلاف" بدأ بين طرفين لخدمة قبيلة واحدة، ثم اتسع ليمثل شبكة تجارية ونشاطاً إنسانياً غيّر تاريخ العرب
نجحت المعاهدات التجارية مع بلاد فارس وبيزنطة والحبشة في ضمان استقرار مكّة وامتيازها
وبغض النظر عن الخلاف حول ما إذا كان هاشم قد التقى القيصر نفسه أم أحد حكامه على الشام، فقد عاد من رحلته بهذا الكتاب ومر به على القبائل المسيطرة على طريق الشام-مكة، وقدم لكل منهم عرضاً: تتولى القافلة المتوجهة إلى الشام نقل تجارة تلك القبائل المتمثلة في فوائض انتاجهم البسيط من التمور والجلود وغيرها دون مقابل للنقل، وتسوّق تلك التجارة في الشام، ثم تعود إليهم برأس المال كاملاً إضافة إلى أرباحه، مقابل أنْ تتولّى كل قبيلة حماية وخدمة القافلة خلال مرورها بمنطقة نفوذها، وإن لم تكن للقبيلة تجارة فإنها تحمي القافلة بمقابل مادي. وبالفعل حصل هاشم على موافقة زعماء القبائل على هذا الاتفاق، وهو ما يسمى في لغتهم بـ"حصل على حبل منهم" كناية عن الارتباط بعهد. من هنا بدأت مكة تصبح مركزاً رئيسياً لتجارة الشام في جزيرة العرب، بل وصار التجار البيزنطيون يتوافدون عليها ويدفعون لسادتها ضريبة العُشر مقابل إتجارهم في أسواقها وحصولهم على حق الحماية والخدمة. جدير بالذكر أن بيزنطة لم تنظر لهذه الاتفاقية كمكسب تجاري فحسب، بل أنها قد وظفت فتح أسواق وسط الجزيرة أمام تجارتها لصالح شبكات من الجواسيس بثتهم في تلك الأسواق لنقل أخبار مناطقها إلى السلطات والوقوف على أية تحركات من شأنها إقلاقها خاصة من جانب الفرس.
توفيَ هاشم خلال إحدى رحلاته بمدينة غزة، فاستكمل باقي إخواته "بنو عبد مناف"، أي عبد شمس ونوفل والمطلب، مشروعه الكبير. توجه عبد شمس إلى الحبشة وقابل النجاشي مقدماً له نفس عرض هاشم لقيصر الروم، وبالفعل حصل منه على "عهد" مشابه وفُتِحَت أسواق الحبشة أمام التجارة المكية. وسافر نوفل إلى بلاد فارس ليعقد اتفاقاً مشابهاً مع الأكاسرة ومع ملوك الحيرة بالتبعية، مما فتح أسواق العراق أمامه، أما المطلب فقد كان نشاطه بين زعماء قبائل اليمن حيث أعطوه العهود المطلوبة، وهي خطوة عكست فهمه طبيعة الوضع المتقلب لليمن حيث كانت السلطة المركزية آنذاك غير مستقرة في مقابل رسوخ الزعامات المحلية. وبعد حصول أي من الأخوة الثلاثة على عهد من سلطة البلاد المجاورة، كان يدور على القبائل المسيطرة على الطرق بين هذا البلد ومكة ويحصل من ساداتها على "حبال" مماثلة لتلك التي حصل عليها هاشم من قبل.. ومن هنا صارت قريش تخرج رحلتان كبيرتان للتجارة، واحدة في الصيف متوجهة إلى الشام والأخرى في الشتاء ووجهتها اليمن، وهما المشار إليهما في الآية القرآنية: (رحلة الشتاء والصيف)، فكانت السلع والتجارة الخارجية تجتمع في مكة ثم تخرج إلى وجهتها التالية جنوباً أو شمالاً حسب الموسم، فضلاً عن تداولها في الأسواق القرشية المعتادة مثل عكاظ. وكانت القافلة تبلغ من 1500 إلى 2500 بعير، تجوب العراق والشام واليمن والجزيرة محملة بالسلع الداخلية لجزيرة العرب كالأصواف والثياب والأسلحة والجلود، أو تلك المستوردة من خارجها كالعطور والبخور من الهند والمنسوجات الكتانية من مصر والخمور الشامية الشهيرة، وغيرها.
ويُختَلَف حول ما إذا كان هؤلاء الإخوة قد قاموا بنشاطهم المذكور بالتزامن أحدهم مع الآخر، أم أنهم قد قاموا به تباعاً عند تولي كل منهم الزعامة بعد موت أخيه، ولكن في كل الأحوال فإن نظام الإيلاف قد مثّل قفزة للتجارة في الجزيرة العربية. فقد أدى إلى ضمان عدم انقطاع السلع بسبب الحروب والنزاعات، حيث أصبحت مكة مركزاً وسيطاً بين القوى المتحاربة، ينقل تجارة هذه لتلك وبالعكس دون تأثر بالمتغيرات السياسية. كذلك فقد التزمت القبائل المسيطرة على طرق النقل التجاري بـ"الحبال" التي أعطتها لبني عبد مناف، لما لها فيها من مصالح، بل وزادت من إنتاجها وفوائضها لتزيد من ربحها من المشاركة في القوافل. إضافة لذلك فقد ارتفع نشاط الصرافة نظراً لتداول عملات يمنية وفارسية وبيزنطية جراء تجارة تلك الدول في الجزيرة، فعرف المكيون نشاط الصيارفة، وأثروا من ذلك. وقد أدى أيضاً إلى تسهيل تداول التجارات القادمة من خارج الجزيرة، فتجارة مصر كانت تأتي عبر الشام، وتجارة الحبشة عبر البحر الأحمر، وتجارة الهند عبر اليمن، وهكذا، مما أدى لارتفاع نشاط الموانيء بالذات على البحر الأحمر مثل ينبع وجدة. وارتفع اهتمام المكيون بالمشاركة في التجارة الخارجية، فلم يعد ذلك مقتصراً على أثرياء البلد بل لقد شاركت الفئات الأقل ثراء سواء من مدخراتها أو من خلال الاقتراض الربوي مما أدى لازدياد أربح المرابين. وسارعت بعض القبائل إلى طلب دخول الإيلاف أو الاستفادة منه حتى وإن لم تكن واقعة على طرق التجارة المعتادة، طمعاً منها في الربح وكذلك للاستفادة من حماية قوافلها خلال مرورها بمناطق "الإيلاف"، ففتحت بذلك طرقاً وأسواقاً جديدة. وارتفع في هذه الظروف نفوذ القرشيون إلى حد أنه يقال أنّ المسافر على رأس قافلة كان يكفي أن يقول أنه من "أهل الحرم" أو أن يضع قلادة بها قطعة من شجر الحرم ليُعصَم من أية مضايقات وهو في طريقه. وأخيراً، فإن تفاعل القبائل والعشائر من خلاله قد سهّل دخول بعضها في تحالفات جانبية لتحقيق بعض الاستفادات المشتركة. القاريء في التاريخ العربي القديم يدرك أن الإيلاف كان قفزة واسعة، إذ أنه بدأ كمشروع بين طرفين هدفه خدمة قبيلة واحدة في بلدة واحدة، ثم اتسع ليمثل شبكة تجارية واسعة ونشاطاً إنسانياً كبيراً تداخَل مع الاقتصاد والسياسة والحياة الاجتماعية والثقافية بشكل عميق ومؤثّر. فمجرد تتبع مختلف أوجه حياة العربي قبل الإيلاف ومقارنتها بها بعده يجعلنا نقف على الأثر العظيم لهذا النظام الذي يمكن أن نصفه بالمبتكر بمقاييس عصره، والذي ساعد بشبكة التواصل التي شكلها، في انتشار ثقافة مكّة إلى كامل المنطقة. المصادر: تاريخ العرب قبل الإسلام، للدكتور محمد سهيل طقوش؛ المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، للدكتور جواد علي؛ جزيرة العرب قبل الإسلام، للدكتور برهان الدين دلو؛ تاريخ قريش وأطلس تاريخ الإسلام، للدكتور حسين مؤنس.