كتب: خالد سراج الدين
للموت قادمون
بين سُحب الغاز المسيل للدموع وأمطار الرصاص الحي التي لا تستثني صغيراً أو كبيراً وغُصة ضمير خوف فقدان القضية تجدهم واقفين على خطوط شبه متوازية يشدون أزر بعضهم بعضاً، وإن سقط أحدهم استبدله رفاقه بعزم ومقولات بسيطة بالدارجة تشجع على الصمود وعلى الموت -ثمن بخس- للقضية التي خرجوا لها تلك معظم المشاهد التي كانت تنقل من المدن السودانية في الـ6 شهور السابقة، ثورة شعبية عارمة راح ضحيتها حتى الآن المئات وما زالت مستمرة حتى الآن مطالبة بأهدافها «الحرية، سلام، وعدالة» .
السودان بلدي!
بلد الفرصة الضائعة، كما لا أحب أن أدعوه، متخم بالصراعات التاريخية بالدماء لكن أيضاً مليء بالثورات والنضال الدائم فصدر شعبه دوماً متقد وتواق للحرية، فأي جيل في التاريخ الحديث للدولة السودانية شهد «ثورة» من نوع ما، فمنذ الثورة المهدية ضد المستعمر التركي ثم الإنجليزي حتى بقية الثورات الشعبية التي تلت الاستعمار، كانت الثورة تخليصاً للذات من سؤاتها التي اكتسبت والجرائم التي ارتكبت في الفترات الأخيرة فيأتي التغيير طفيفاً لا يمس جذور المشاكل ولا يفهم اللهجات المحلية «الرطانة»، حالة التوهان تلك دوماً ما تنتهي بالعسكر الذين «لا يفهمون» صاعدين على السلطة بدعوى دكتاتورية البيرولتاريا! انقلابات عديدة تجعل الشعب يتساءل ككونديرا «هل الثقل فعلاً شيء سيئ؟» واضعين الكرة أرضاً مرة أخرى لصراع جديد داخل السلطة بين قوى متوارثة وقوى جديدة تطمح لوضع قدم داخل المنصة القيادية للسودانيين تتخذ من قوة السلاح طريقاً مختصراً لها وتدعي العدالة للمهمشين فتمتطي حصان الدين حيناً والشعبوية في الأغلب، لكن سرعان ما يدب سوس سوء النفس على تلك المنظومة فتخرج الجموع مرة أخرى مطالبة بدقيق الحياة.. دائماً.
لكن حالة الجيل الثائر الآن في الخرطوم والمدن والأرياف حالة مختلفة نوعاً ما، فهو تعرض لأطول فترة استبداد سياسي عسكري اجتماعي في تاريخ الأجيال السودانية المتعاقبة، فقد لا يختلف اثنان أن عهد الإنقاذ كان الأكثر دموية وفساداً للمال والأخلاق، نظام استمر لـ30 عاماً على سُدة حكم مهتزة صارع فيها يميناً يساراً، غرباً شرقاً حتى تشاكث مع ذاته وطعن آباءه المؤسسين، نظام بيدغواجي بامتياز لا يتعامل إلا بأحادية القضية التي تفترض في «شعوب» السودان شكلاً واحداً وفكراً واحداً، وبل أكثر من ذلك ديناً ولوناً وسعى في ذلك بكل الوسائل بين مناهج التعريب والقضاء على كل أشكال الفن والفكر الحر، حالة توهان جعلت انتماءه للبعيد شكلاً ولغة بادعاء الأخوة فاستورد أنماط دين وأدخل فيها الدعاة من السعودية والكويت مبشرين بيوتوبيا إسلاموية جديدة على أرض السودان، جاؤوا بكل أشواقهم ووجدوا في عجينة الدولة لينة ويسهل تشكيلها وسط تلك التضادات، ومن رحم تلك الأم المتوترة ولد جيل جديد لا يعرف لأي أب وأم ينتمي للغابة للصحراء.
ولد ذلك الجيل وملأت آذانه الإيقاعات المارشات العسكرية فالجنوب كعادته متقد والحرب حرب «محمد» بذلك النصراني الكافر «قرنق» فجيش الشباب قصراً وتطوعاً من أجل شهادة يمنحها الحاكم للمقاتل شهيداً ويزوج لها حورية في جنان الجنة في عزائه الذي يقدع فيها المسؤول على الأسرة بقليل السكر والشاي، قبل أن يعلن زواج الشهيد بحورية في الجنان في ذات اللحظة، فيتحول صوان الحزن لمناسبة فرح، أوقات كان الرعب يملأ الأرجاء، ولا صوت إلا صوت مجاهدي الدفاع الشعبي والبنادق «ليش ليش ما تتقدم للحور والجنة» أناشيد دم يحفظها الأطفال بدلاً من أناشيد الأزهار والحياة وأصوات شاحنات «الكشة» التي ما تتعب من اصطياد المراهقين الذين سرعان ما يرسلون لنار الحرب لا يعرفون ما القضية أو كيف تعمل البندقية.
كبر ذلك الجيل قليلاً، وتنفس الصعداء على هامش اتفاقيات السلام، لكن سرعان ما تحولت تلك المارشات العسكرية في آذانه لصراخ يصدر من أشرطة كاسيت صفراء يُكثر دعاتها من كلمة حرام، فاللهو حرام والعشق حرام والـ… حرام حرام.. حرام فلا يجد ذلك الشاب مهرباً من نفسه الخطاءة إلا أن يختبئ خلف لحية خفيفة أو خمار عظيم السواد، ويمتنع عن المصافحة فهم لأنفسهم آلان عورات ومجرمون قيد التنفيذ والأعداد ستحرقهم جنهم، وهم «فحم» مرشح له، تلك الأشرطة كانت مخيفة تثير الخوف من شيطان النفس وتجعلك تستغفر بلا ذنب، فأنت عورة بكل فعلك، قولك أو ما لم تفعل حتى.
تحتاج دوماً لطلب غفران، فظهرت دموع صكوك الغفران بين شرائط الكاسيت التي عبرت من البحر الأحمر وفيديوهات الدعاة اللطيفين الذين يظهرون ديناً حديثاً يشابه الجيل، لكنها ما كانت سواء أغلال جديدة أطبقت على ذلك الجيل، على تفكيره وحريته في أن يختار، وأن يتعلم، صار هو الجلاد والمجلود في آن واحد، ولا أحد يعاب أو يذم في تعنيفه غيره ذاته، بين عمرو خالد وإخوانه وجد هؤلاء الشباب نفسهم فجأة أصبحوا خريجين جامعيين فارغين من أي خبرة حياتية يعشقون الرمادي، نفس الألوان، نفس الذوق والاهتمامات، الموسيقى، نفس العبارات المرددة.
وفجأة دخل ذلك الجيل في عقده الثاني أو الثالث بلا ألوان فأخذ يبحث عن نصفه المفقود، نصف تجربة، نصف خطيئة، نصف حياة ضاعت أمام التوجيه والوعيد والترهيب، فرغب في الوقوع في بحر غير معلوم الأمواج بلا شراع أو صارية غير اللاخوف بالقرف من الواقع، من الذات، من ركونها للتبعية، فتكسرت تلك الأمواج رويداً رويداً حتى تعلم ذلك الجيل السباحة مصطدماً بالمعرفة وبالسياسة وبالقضايا الإنسانية متسائلاً: لماذا؟ غير منتظر للإجابة بل ساعياً لصنع الأجوبة أو لإيقاف مَن يأتون بعده من التساؤل بنفس اللعنة.
اليوم والعالم متخم بالساسة والقادة السذج، بالتجار، بالكراهية بالاختلاف، التنميط بالشركات العابرة للأخلاق، بالجثث على شواطئ بلاد الشمال بالمغتصبات بأجنحة الأطفال، بالملطخة بالدماء، بمصاصي الدماء من تجار السلاح، المنظمات، الهيئات الدولية مبدية القلق بالصمت.. يقف السودانيون والسودانيات على آخر خطوط الدفاع عن معركة الضمير الإنساني غير أبهين بال «مستحيل» واقفين هناك.. ما زالوا وحدهم.