ينوي الديمقراطيون في مجلس النواب الأمريكي الشروع في تحقيق حول ما اذا كان من الممكن عزل الرئيس دونالد ترامب بسبب اتصالاته مع الرئيس الأوكراني، والتي يقال إنه طلب من الأخير فيها معلومات عن نائب الرئيس السابق - والساعي إلى ترشيح الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة - جو بايدن وابنه.
وكانت دعوات لعزل ترامب قد صدرت إبان التحقيق في صلاته بروسيا، ولكن هذه المرة ذهبت رئيسة مجلس النواب في الكونغرس نانسي بيلوسي إلى أبعد من ذلك وشكلت لجنة لبحث الموضوع.
ويقول خبراء قانونيون إنه لا يمكن مقاضاة الرؤساء أثناء وجودهم في سدة الحكم، ولذا فالطريقة الوحيدة التي قد يمكن التخلص بها من ترامب هي عزله.
ولكن كيف يمكن أن يتم هذا العزل؟ وهل من رؤساء عزلوا في السابق؟ الجواب قد يفاجئكم.
في هذا السياق، تعني عبارة "العزل" توجيه اتهامات في الكونغرس قد تشكل أسسا لإحالة الرئيس إلى القضاء.
ينص الدستور الأمريكي على أن الرئيس "قد يعزل من المنصب في حالة اتهامه بالخيانة أو الرشوة أو غيرها من الجرائم والجنح الخطيرة".
ومن المعلوم أن بدء عملية اجراءات عزل الرئيس ينبغي أن تنطلق من مجلس النواب، ولا تحتاج إلا لأغلبية بسيطة لتمريرها. أما محاكمة الرئيس فيجب أن تجرى في مجلس الشيوخ.
ولكن في هذه الحالة، سيكون من الضروري الحصول على أصوات ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ من أجل تمرير قرار عزل الرئيس، وهو أمر لم يحصل في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.
لم يواجه إلا رئيسين أمريكيين إثنين اجراءات عزلهما من المنصب في تاريخ الولايات المتحدة رغم التهديدات التي أطلقت في مناسبات عدة.
ففي السنوات الأخيرة، واجه بيل كلينتون - الرئيس الـ 42 للولايات المتحدة - امكانية عزله بتهم الكذب أمام هيئة محلفين كبرى وعرقلة عمل العدالة، وذلك بعد كذبه حول طبيعة العلاقة التي ربطته بمونيكا لوينسكي وطلبه منها أن تكذب حول الموضوع بعدئذ.
وكان مجلس النواب قد صوت بأغلبية 228 مقابل 206 لصالح عزل كلينتون فيما يخص التهمة الأولى و221 لـ 212 فيما يخص التهمة الثانية.
ولكن تجب الإشارة إلى أن الشعبية التي كان يتمتع بها كلينتون في كانون الأول / ديسمبر 1998 كانت تبلغ 72 في المئة.
ولكن، وعندما أحيلت القضية إلى مجلس الشيوخ في عام 1999، لم تحظ بتأييد الثلثين من أعضاء المجلس الضرورية لتمريرها. وجاء في تحليل لبي بي سي نشر في حينه أن "أعضاء المجلس، في سعيهم الحثيث والدؤوب للتخلص من الرئيس، لم يفكروا فيما اذا ممكنا اثبات التهم الموجهة ضده دون أي شك".
الحالة الثانية لم تتعلق بريتشارد نيكسون، كما قد يتوقع كثيرون.
فالرئيس الأمريكي الوحيد الآخر الذي واجه اجراءات العزل هو أندرو جونسون، الذي تولى منصب الرئاسة في عام 1865، وكان الرئيس الـ 17 للولايات المتحدة.
وكان مجلس النواب قد طالب بعزل جونسون في عام 1868. وجاء التصويت على عزله بعد مضي 11 يوما فقط بعد تنحيته لوزير الدفاع أدوين ستانتون بسبب عدم اتفاق الأخير مع سياسات الرئيس.
ولم تغفل الصحافة الأمريكية أوجه الشبه بين تنحية ستانتون في عام 1868 وقرار الرئيس ترامب بطرد رئيس مكتب التحقيقات الإتحادي جيمس كومي الذي لم يتفق مع الكثير من سياساته.
ولكن، وبخلاف الوضع مع كلينتون، نجا جونسون من العزل بفارق قليل جدا، إذ فشلت محاولة عزله بصوت واحد بفضل تصويت الجمهوريين.
وكان عضو مجلس الشيوخ عن ولاية آيوا، السيناتور جيمس غرايمز، قال عقب التصويت "لا استطيع أن أوافق على تقويض العمل التوافقي للدستور من أجل التخلص من رئيس غير مقبول".
يتلاعب الزعماء الديمقراطيون في مجلس النواب الأمريكي منذ شهور بالالفاظ، فهم يريدون من النواب الذين عارضوا اجراءات عزل ترامب واولئك الذين أيدوها أن يفكروا مليا فيما يريدون وفيما كانوا سيحصلون على ما يبتغون.
أثارت هذه السياسة مخاوف رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي وغيرها من أن طرق سبيل المطالبة بعزل الرئيس قد يهدد حظوظ الديمقراطيين الذين يواجهون معارك انتخابية حاسمة في سنة 2020.
ولكن يبدو أن هذه التقديرات قد تغيرت بشكل جذري، وذلك عقب ذيوع الاخبار حول الاتصالات التي أجراها ترامب مع نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. أدت أنباء هذه الاتصالات حتى بالسياسيين الوسطيين إلى تأييد التوجه نحو اطلاق اجراءات عزل ترامب.
لقد انهار السد، وخرج الجني من قمقمه. الحقيقة تقول إن بيلوسي - التي تتمتع بقدرة كبيرة على جس نبض مؤيديها - قد قررت التحول من موقفها السابق في التصدي لمحاولات عزل ترامب إلى موقف لا يعارضه في الحد الأدنى.
ما زال المستقبل مبهما. فبإمكان الإدارة - إدارة ترامب - التراجع عن موقفها الممانع ومنح الكونغرس بعضا من المعلومات التي يطالب بها. وقد تسهم استطلاعات الرأي في اظهار أن التطورات الأخيرة تضر بأحد الحزبين الرئيسيين، مما قد يسهم في انهيار الارادة السياسية عندهما. ومن جانب آخر، قد يقرر الحزبان التمسك بموقفيهما وخوض معركة سياسية من الممكن أن تمتد طيلة أشهر الشتاء القاتمة.
من المعروف أن الجمهوريين لهم الأغلبية في مجلس الشيوخ، ولذا لن يكون من الممكن ازاحة ترامب من موقعه ما لم ينقلب أعضاء حزبه عليه.
ومن الواضح أن أغلبية النواب والشيوخ الجمهوريين ما زالوا موالين له.
وبالطبع، هناك استثناءات لهذا المبدأ، مثل عضو مجلس الشيوخ ميت رومني الذي كان الوحيد من الجمهوريين الذين طالبوا البيت الأبيض بالمزيد من الشفافية حول الاتصالات التي أجراها ترامب مع أوكرانيا.
ولكن يبدو في نهاية المطاف أن ترامب سيبقى في موقعه في البيت الأبيض بفضل دعم الجمهوريين.
أما فيما يتعلق بالجمهور الأمريكي الأوسع، لا يتمتع ترامب بالكثير من الشعبية، ولكن الرغبة في عزله ما زالت ضعيفة.
ففي استطلاع أجرته جامعة مونماوث في وقت سابقمن الشهر الحالي، قبل ذيوع المسألة الأوكرانية، تبين أن 35 في المئة من الأمريكييين يرون أنه ينبغي عزل ترامب.
فعل ريتشارد نيكسون ما كان سيفعله أي انسان سوي عندما يعرف أن التيار يسير ضده. فاستقال من منصبه.