تعالت أصوات الموسيقى الكلاسيكية مع ترجّل العروس من سيارة سيدان بيضاء على سجادة حمراء، وتأبطت ذراع عريسها المرتدي بدلة رسمية أنيقة، وسارا معاً وعلى وجههما ابتسامة عريضة وسط تهليل أقارب العروسين.. وفعلت العروس التالية نفس الشيء، ثم التالية، والتالية.. إلخ .. فلقد كان هذا أحد حفلات الزواج الجماعية في لبنان.
وبمجرد وصول الأزواج –الذين كان عددهم 34 في ذلك اليوم- إلى مقاعدهم، قاد بطريرك الكنيسة المارونية، الذي كان يرتدي رداءً قرمزياً ويمسك بيده صولجاناً يعلوه صليب ذهبي، قداساً وأعلن كل ثنائي زوجاً وزوجة.
كان هذا رابع حفل زفاف جماعي يُقام في لبنان خلال فترة ثلاثة أسابيع، فيما يُمثّل ظاهرة اجتماعية تتنامى في البلاد وفي جميع أنحاء الشرق الأوسط.
أدَّت الضغوط الإقتصادية وارتفاع تكلفة حفلات الزفاف إلى تَدخُّل المُحسنين النافذين لرعاية احتفالات واسعة النطاق للتأكّد من إتمام زواج الشباب في منطقة، حيث لا تزال خطوة الزواج تحظى بأهمية وتقدير كبيرين.
تؤدي السياسة والإيمان والديموغرافيا المعقدة دوراً كبيراً أيضاً في في لبنان، حيث يوجد 18 طائفة معترفاً بها رسمياً.
ترعى الأحزاب السياسية حفلات زفاف أعضائها الشباب لتعزيز ولائهم وامتنانهم. تعتبر الأقليات الدينية والعرقية -أي كل فرد في لبنان المنقسم- الزواج والإنجاب ضروريان للحفاظ على بقائها على المدى الطويل. كذلك، تُشجّع الجماعات المسلحة مقاتليها على الزواج حتى يصبح أطفالهم مقاتلي المستقبل.
وقبل بضعة أسابيع من تلك الأعراس المارونية، أشرف حزب الله اللبناني، وهو جماعة شيعية مسلحة وحزب سياسي، على حفل زفاف جماعي ضخم مماثل لـ 31 ثنائياً. ويعتبر هذا العدد ضئيلاً مقارنةً بـ 196 ثنائياً تزوّجوا في عرس جماعي أقيم في لبنان في وقت سابق من هذا العام برعاية رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس.
لكن قطاع غزة المجاور -حيث يتسبَّب الحصار المصري-الإسرائيلي في إبقاء سكان القطاع فقراء ومعزولين- يتفوق عليهم جميعاً، غالباً بسبب المنافسة بين الرعاة الأجانب الذين يتوقون إلى كسب أصدقاء من خلال التعجيل بإتمام الزيجات.
في عام 2015، رعت دولة الإمارات العربية المتحدة حفل زفاف جماعي لـ 200 ثنائي. ورفعت تركيا سقف المنافسة على نحوٍ كبير للغاية بعد ذلك الحفل بشهرين، حيث موَّلت عرساً جماعياً يضم 2000 ثنائي، والذي حضره مسؤولون من حركة حماس، وهي الجماعة المسلحة الحاكمة لقطاع غزة.
تحظى حفلات الزفاف الجماعية بإقبالٍ كبير من الشباب والفتيات المقبلين على الزواج، الذين لا يستطيعون تَحمُّل تكاليف إقامة حفلات زفاف خاصة بهم أو يرغبون في إنفاق أموالهم على أشياء أخرى، مثل بناء منازل أو بدء أنشطة تجارية.
قال روني أبو زيد (35 عاماً)، الذي تزوَّج في حفل الزفاف الجماعي الماروني، الذي أقيم في بلدة بكركي اللبنانية الواقعة بالقرب من ساحل البحر المتوسط، شمال بيروت: «هم يهتمون بكل التفاصيل، بارك الله فيهم».
بعمل روني أبو زيد جندياً، وراتبه لا يتيح إمكانية توفير مبلغ الـ20 ألف دولار، الذي يحتاجه لتجهيز منزل الزوجية واستضافة حفل زفاف خاص به. لذا، انضم بكل سرور إلى حفل الزفاف الجماعي.
وقال أبو زيد: «كنا سنعاني إذا تزوجنا في أي مكان آخر».
كان حفل زفافه برعاية الرابطة المارونية، وهي مجموعة غير ربحية ذات صلة بالكنيسة المارونية. يُعتبر الموارنة أكبر المجموعات المسيحية في لبنان، إذ يُشكّلون نحو 36% من سكان البلاد.
وأوضح فادي جرجس، أحد مسؤولي الرابطة المارونية، أنَّ سعي الأقليات نحو تشجيع شبابها على الإنجاب يعتبر أمراً طبيعياً في بلد تؤثر فيه التركيبة السكانية على توزيع السلطة.
وقال جرجس: «عندما تشعر أي جماعة عرقية بالخطر، يلجأ أعضاؤها إلى التعاون مع بعضهما البعض. وعندما يرون ارتفاع معدل نمو الجماعات العرقية الأخرى، يعتقدون أنَّه ربما يستطيعون عرقلة هذا النمو لمنع تشكيل أكثرية ساحقة».
ولبنان بلد عانى من صراعات الطوائف منذ قرون، ولعبت الزيادة السكانية والهجرات والحروب الأهلية دوراً كبيراً ومتداخلاً في تحديد الطائفة المسيطرة أو الأقوى.
فتاريخياً كان يعتقد أن الطائفة الدرزية كانت الأكبر سكاناً والمهيمنة سياسياً، ولكن الطائفة المغلقة عانت من تراجع وزنها النسبي السكاني بسبب قلة الزيادة السكانية الطبيعية والهجرات بسبب الحروب الداخلية بين أعضاء، ليصبح الموارنة أكبر الطوائف سكاناً عشية استقلال لبنان، والطائفة المسيطرة بفضل علاقتهم مع فرنسا ووزنهم السكاني، ولكن هذا التفوق سرعان ما فقد بعد الاستقلال بسنوات بسبب الهجرات والحروب وارتفاع مستواهم الاقتصادي.
وكان الزيارة السكانية بين المسلمين سنة وشيعة سبب رئيسي لرغبة المسلمين وسنة شيعة في إعادة النظر في توزيع السلطة التي كانت الغالبية فيها للمسيحيين.
ويشعر المسيحيون بالقلق من تراجع نسبتهم في السكان، رغم أن هناك مؤشرات أن نسبتهم قد استقرت مع انخفاض معدل المواليد مع ارتفاع مستوى التعليم بين المسلمين وتزايد الهجرة بينهم.
بل يتوقع أن المسيحيين ستبدأ نسبتهم في الزيادة.
كان العرس الجماعي لهذا العام هو العاشر للرابطة المارونية خلال 11 عاماً، ليصل عدد زيجات تلك الأعراس إلى 274 زيجة. حتى الآن، أسفرت تلك الزيجات عن إنجاب أكثر من 100 طفل، في حين لم تقع سوى 3 حالات طلاق فقط.
يجب على الثنائي التقدُّم بطلب للانضمام إلى عرس جماعي تُنظّمه الرابطة المارونية. يجب أن يكون أحد الزوجين على الأقل مارونياً، ويجب أن يمتلك العريس منزلاً ووظيفة.
يحصل كل ثنائي مقبول طلبه على بدلة مجانية للعريس، وثوب زفاف للعروس، ودعوات، وزهور، وألبوم صور، وهدية نقدية قيمتها 200 دولار، فضلاً عن مباركة من بطريرك الكنيسة المارونية، وهي منحة كبيرة للمتدينين.
يتقدَّم كل ثنائي واحداً تلو الآخر أثناء العرس ليعلنوا موافقتهم على إتمام الزواج، فتنطلق الزغاريد ويصفق الحضور. وصوّرت كاميرا مُثبّتة على رافعة عدة لقطات لبثها على التلفزيون.
قال جرجس إنَّ الرابطة المارونية قدَّمت في إحدى حفلات الزفاف الجماعية بعض الوجبات الخفيفة والمشروبات، لكن التدافع المؤسف بين العائلات لتناول تلك المشروبات والمأكولات تسبَّب في إلغاء هذه الضيافة.
تقدّم الرابطة المارونية دعماً لكل الأزواج حسب مقتضى الحال مع التشجيع على الإنجاب. ومن المقرر أن تُجهّز الرابطة هذا العام روضة أطفال لأول عشرة أزواج يرزقون بأطفال. وتوفر جماعات دينية وسياسية أخرى امتيازات مختلفة.
وفي نفس الأسبوع، الذي أقيم فيه حفل الزفاف في بلدة كركي، وهي المقر الرسمي للكنيسة المارونية، تجمَّع 19 ثنائياً في أحد منتجعات بلدة الجية على شاطئ البحر جنوب بيروت، لحضور حفل زفاف جماعي آخر نظمته «واحة الأمل» التابعة لحركة أمل، وهي حركة وحزب سياسي مرتبط بالطائفة الشيعية في لبنان.
نُظّم هذا العرس الجماعي في حديقة يتوسطها حمام سباحة تحيط به طاولات مزينة بأقمشة بيضاء وشموع وتوجد عليها أطباق المُقبّلات، فيما يعد كل هذا رفاهيات نادرة بالنسبة لعائلات أكثريتهم من الطبقة الفقيرة، وجاءت لرؤية أبنائها وبناتها يتزوجون.
وقالت فاطمة قبالان، إحدى مُنظمي هذا العرس الجماعي، إنَّ مجموعة «واحة الأمل» زوَّجت حوالي 300 ثنائي في 12 حفل زفاف جماعي على مر السنين. ولم توفر لهم حفل زفاف فاخراً يفوق قدراتهم المادية فحسب، لكنَّها ساعدتهم أيضاً في تأسيس منازل الزوجية وأهدتهم قطع أثاث وأجهزة منزلية كهربائية.
أعطت المجموعة أولوية المساعدة في إتمام الزيجات لأبناء أعضاء الحزب، الذين أصيبوا أو قُتلوا في حروب لبنان، وكذلك للفقراء.
وقالت قبالان: «إذا لم نساعدهم في تجهيز منزل الزوجية، سيتورّطون في الديون وتتجه حياتهم نحو الفشل».
عندما بدأ النُدُل، الذين يرتدون قمصاناً بيضاء، في توزيع صواني اللحم المشوي والأرز والسمك، ألقى مسؤولو الحزب خطابات وتحدّث صحفي بارز في الميكروفون لتذكير الأزواج بأهمية الإنجاب «لمقاومة» إسرائيل والنضال ضدها.
ثمَّ، دخلت فرقة رقص تقرع الطبول وتنشد الأغاني وتلوّح بهراوات مشتعلة وقلوب حمراء عملاقة. بعد ذلك، مرَّ الأزواج عبر الحشد، إذ يرتدي العرسان بدلات سوداء ورابطات عنق وترتدي العرائس فساتين بيضاء مع طرح الزفاف المرفقة بها. وواصل الأقارب التقاط الصور عند مرورهم.
وأشار علي علاء الدين، واحد من العرسان وكان يُصفّف شعره للخلف مثل المغني الأمريكي الراحل ألفيس بريسلي، إلى عدم قدرته تحمّل تكاليف قضاء شهر عسل، لكنَّه عبَّر عن امتنانه لإتمام زواجه في هذا العرس الجماعي.
وقال: «إذا لم يكن هناك حفل زفاف جماعي، ما كنا سنستطيع الزواج».
بدأت العائلات بعد العشاء تلتقط صوراً لكعكة الزفاف المتعددة الطبقات. وانطلقت الألعاب النارية في السماء، وشهد الحفل القليل من الرقص. ثمّ، غادر جميع الأزواج ليبدأوا حياتهم الجديدة معاً.
وذكر أحد العرسان يُدعى عبدالله دبوق أنَّ زوجته لفتت انتباهه عندما دخل المستشفى بسبب التهاب في الزائدة الدودية، حيث رآها تعمل ممرضة. وبمجرد امتثاله للشفاء ومغادرته المستشفى، تقفى آثار عائلتها.
قال دبوق: «ذهبت لمقابلة عائلتها بمجرد أن استعدت قدرتي على المشي».
تبادل الثنائي الزيارات والمحادثات على موقع فيسبوك لعدة أشهر قبل إعلان خطوبتهما، لكن لم يكن لديهما المال الكافي لإقامة حفل زفاف كبير خاص بهما. لذا، سألا مسؤولين من حركة أمل ما إذا كان بإمكانهما الانضمام إلى حفل الزفاف الجماعي.
ومن جانبها، قالت نور عواركة، العروس البالغة من العمر 20 عاماً: «كان قراراً مصيرياً».
وتعليقاً على ذلك، قال العريس البالغ من العمر 26 عاماً: «الحمدلله على التهاب الزائدة الدودية».
-هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The New York Times الأمريكية (عربي بوست)