ياسر المقطري- باحث مصرفي
استمرت كبريات شركات وشبكات الصرافة في صنعاء بالتنسيق مع البنك المركزي في تبني سياسات نقدية تسهم في خلق مناطق سعرية متفاوتة؛ فأسعار صرف العملات الأجنبية هناك ظلت منخفضة بواقع (5-10) ريالات للدولار الواحد عن تلك الأسعار في “مناطق الشرعية”.
هذه السياسية التي استمرت منذ بداية ظهور أزمة السيولة منتصف العام (2016) ساهمت في استقطاب السيولة النقدية بالعملة المحلية في مناطق سيطرتها؛ كونها منطقة جذب للريال اليمني، بالرغم من التدخلات التي قام بها البنك المركزي في عدن ببيع عملات أجنبية ولمرات كثيرة سواء بالبيع نقداً عبر المزادات التي كان يعلن عنها أثناء تولي المحافظ السابق منصر القعيطي، أو من خلال آلية استيراد السلع الاساسية والمشتقات النفطية وبأسعار تقل عن أسعار السوق السوداء في (صنعاء،وعدن) بواقع 80 ريالًا وبنسبة متوسطة من 20-25% من قيمة الدولار الواحد، أو ما يعادله بالريال السعودي.
لقد تعايشت السوق الموازية أو السوداء وجميع المضاربين بالعملة بسلام ووئام مع تلك السياسات النقدية المتبعة سواءً في صنعاء أو عدن على حدٍ سواء، فالجميع يكسب باستثناء الشعب المغلوب على أمره والذي يدفع فاتورة تلك الفوارق كمعدلات التضخم المتزايدة أو الارتفاعات المستمرة في أسعار السلع الأساسية.
فشركات الصرافة وشبكاتها في جميع المحافظات تكسب مئات الملايين من الريالات يومياً جراء تلك السياسات، والسلطات في صنعاء وعدن يساهمون في تغذية تلك السوق من خلال الإجراءات المتضاربة التي يتخذونها، ففي حين تمنع صنعاء التعامل بالطبعة الجديدة تتساهل السلطات في عدن مع من يرفضون تداول الطبعة القديمة، وتكون النتيجة استمرار مناطق الانخفاض والارتفاع.
هناك أسباب أخرى دفعت بمركزي صنعاء اتخاذ قرارها الأخير منع تدوال العملة الجديدة المطبوعة من قبل المركزي في عدن، فعادة ما تتعرض العملة المطبوعة لتلف جزء منها أثناء التداول وبالذات الطبعة القديمة وهذه ظاهرة مستمرة في اليمن منذ عقود حيث ونسب العملة المتلفة سنوياً تصل إلى معدلات كبيرة من العملة المطبوعة
في مطلع العام 2019 كانت هناك محاولة لتعديل تلك العملية من خلال عدة عوامل توافرت حينها في مناطق “الحكومة الشرعية” كان أبرزها بيع سيولة نقدية من العملات الأجنبية لمستوردي السلع الأساسية المكملة، فتحولت مناطقها إلى منطقة انخفاض في أسعار الصرف لغضون أيام قليلة، ثم سرعان ما تراجعت بعد التدخل القوي من قبل شركات صرافة كبيرة في صنعاء لتضخ إلى السوق عشرات الملايين من الدولارات لتخفيض سعر الصرف، ليكون أقل مما هو عليه في مناطق الشرعية وذلك لاستعادة السيطرة واستمرار حالة التعايش والوئام.
وهناك أسباب أخرى دفعت بمركزي صنعاء اتخاذ قرارها الأخير منع تدوال العملة الجديدة المطبوعة من قبل المركزي في عدن، فعادة ما تتعرض العملة المطبوعة لتلف جزء منها أثناء التداول وبالذات الطبعة القديمة وهذه ظاهرة مستمرة في اليمن منذ عقود حيث ونسب العملة المتلفة سنوياً تصل إلى معدلات كبيرة من العملة المطبوعة، ففي ظل تشديد الاجراءات على منع تداول الطبعة الجديدة هناك منذ أكثر من عامين بالتوازي مع تلف الطبعة القديمة بدأت السيولة النقدية منها تتآكل في صنعاء بشكل لافت، وتحل محلها الطبعة الجديدة وهذا ما لا يروق لسلطات صنعاء، فاتخاذ قرار كهذا يهدف إلى استقطاب المزيد من الطبعة القديمة من “مناطق الشرعية”.. لكن كيف ذلك؟
أصدر البنك المركزي في عدن قبل أيام تعميمًا يوضح فيه أنه هو الجهة الوحيدة التي يحق لها أن تمنح تصاريح إصدار عملة إلكترونية بحكم المشروعية الدولية لسلطاته، ونوه إلى قبول الطبعة الجديدة في كل المحافظات، لكنه لم يشدد على ضرورة قبول تداول الطبعة القديمة من العمله في مناطق السيطرة، حيث سبق هذا التوضيح تسريب عبر الصحافة والمواقع الإلكترونية بأن السلطات في عدن قد تتبنى إجراءات تمنع بموجبها بيع المشتقات النفطية والغاز، ودفع الجمارك بالطبعة الجديدة- وهذا تسريب مدفوع الثمن من السوق السوداء في صنعاء يؤكد فرضية أنها المستفيد الأكبر من التباينات القائمة – لأنه حال تم ذلك ستكون قد حققت هدفها بتدفق الطبعة القديمة باتجاهها بنسب عالية لكونها منطقة انخفاض في سعر الصرف ولأنها الجهة الوحيدة التي تقبل بها، وبذلك تكون وفرت سيولة نقدية منها واستغلت فوارق سعر الصرف بما يعود عليها بمكاسب خيالية.
أما فيما يتعلق بالعملة الالكترونية فلم تكن الفكرة وليدة اللحظة بل سبق وأن تم تداول فكرة (البنكنوت) أو الريال موبايل عبر شركات الاتصالات وكان ذلك مع نهاية العام الماضي في صنعاء، إلا أن الفكرة لم تلقَ لها القبول المطلوب، وجاء القرار المتخذ قبل أسبايع استكمالاً لفكرة (البنكنوت) ولحل المشكلتين -بعيداً عن حكاية التضخم- وهما مشكلة الطبعة القديمة التي أشرنا إلى أنها تتلف سنوياً دون تعويض، والهروب إلى عملة الكترونية في حال ألغيت الطبعة القديمة، بالإضافة إلى التخلص من الطبعة الجديدة التي تعتبرها صنعاء غير شرعية.
وقد تتعرض سلطات صنعاء إلى حملة واسعة من الإدانة والسخط الشعبي في حال أقدمت على خطوة إتلاف الطبعة الجديدة، فلجأت إلى حل بديل عوضاً عن المصادرة والائتلاف باستبدال ما يتم تداوله من طبعة جديدة بعملة إلكترونية، لكن كثيرين يتوقعون أن هذا الحل لن ينجح؛ لأن اليمني معروف من زمان “يحط فلوسه تحت وسادته وينام” فهو لايثق بأحد حتى بالبنوك التي تعمل تحت إشراف ورقابة البنك المركزي ولديها من الأصول والاحتياطيات ورأس المال عشرات المليارات، فما بالك بعملة إلكترونية لا توجد جهة رسمية يمكن أن تضمنها، في ظل حرب وفوضى تشهدها البلاد بالإضافة إلى عوامل أخرى يطول ذكرها.
يمكن القول بأن القرار الذي اتخذه مركزي صنعاء بخصوص منع تداول العملة المطبوعة حديثاً من قبل السلطات الشرعية في عدن يندرج تحت المكايدات السياسية وعلى حساب مصلحة الشعب لا لمصلحته كما هو التبرير.
زيادة الطلب على السيولة النقدية بالعملة المحلية في صنعاء سيقابله زيادة في المعروض من العملات الأجنبية، وبالتالي انخفاض أسعارها وهذا ما تنتظره السوق السوداء مستغلةً ذلك التفاوت في أسعار الصرف بين منطقتي الانخفاض والارتفاع؛ واتساع تلك السوق في أي بلد يأتي على حساب السوق المنتظمة والاقتصاد المنظم.
سيشكل هذا الإجراء المتبع من قبل سلطات صنعاء ضغطًا كبيرًا في الإقبال على شراء العملات الأجنبية، وتحويل ما لديهم من عملات جديدة إلى عملات أجنبية هروباً من المصادرة أو تحويلها إلى نقد الكتروني غير مضمون، وستزيد أسعار الصرف وتؤثر بدورها على أسعار السلع، واستمرار تدهور العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية وزيادة معدلات التضخم واتساع رقعة الأزمة الانسانية في ظل تزايد معدلات البطالة والفقر في وسط المجتمع الذي يعاني من التمزيق الجغرافي والتشرد.
استمرار تذبذب أسعار الصرف والقرارات الارتجالية يعني استمرار حالة عدم الاستقرار الاقتصادي والمالي، وحشر القطاع المصرفي والقطاع الخاص بشكل أكبر في الصراع، وهذا ما سينعكس على أدائه الذي يعاني بالأصل منذ الطلقة الأولى للحرب المستعرة.
إلي أين ستؤول تلك الإجراءات:
الطبعة القديمة لن تدوم طويلاً بمقابل تزايد حجم المتلف منها سنوياً وتوقف طباعتها، وبالتالي فلا خيارات كثيرة أمام سلطات صنعاء سوى خيارين:
إما أنها تطبع بطريقتها الخاصة وهذا غير وارد لأن ماستطبعه لن يكون مقبولاً على الإطلاق في الوسط المالي، سواءً أفراد أو شركات، وسيشكل مجازفة غير محسوبة العواقب، أو أنها ستلجأ إلى فرض العملة الإلكترونية كأمر واقع، ولن يجدي ذلك نفعاً في الوقت القريب على الأقل، في ظل عدم الثقة التي تنتاب الجميع في حفظ مدخراتهم في عملة غير مضمونة وبالتالي سيكون النجاح محدود للغاية.
ويظل الخيار المتاح للجميع هو توحيد قرارات السياسة النقدية وفقاً لتفاهمات اتفاقية السويد وتحييد القطاع المالي والمصرفي من الصراع، والقبول بالطبعة الجديدة في صفقة تسوية للملف الاقتصادي برمته، والخروج من تلك التعقيدات والإجراءات المتضاربة التي تصب في تدمير الاقتصاد المحلي ومقدراته.
خاص بالمشاهد نت