لماذا هناك بلاد عظمى من بين كل بلاد العالم، وبلاد ليس لها أي وزن دولي بالمرة كبلادنا العربية مثلاً؟ وعلى أي أساس يُبنى هذا التصنيف؟ وهل من الممكن أن نصبح نحن العرب من مصافّ الدول العظمى يوماً ما رغم أن المجتمع الدولي حالياً لا يُقيم لنا أي وزن؟
الحقيقة الصادمة عزيزي القارئ أن تحقيق ذلك ليس مستحيلاً، بل غاية في الصعوبة، وقد أَعْتَبره أنا ضرباً من الجنون، على الأقل خلال الخمسين عاماً القادمة مع كمّ هائل من التفاؤل، لكن هذا هو واقع الحال صراحة، وربما أنكم ستوافقونني الرأي بعد أن تنتهوا من قراءة هذا المقال، فهناك شروط ضخمة وتعتبر شبه مستحيلة بالنسبة لنا نحن العرب يجب توافرها في دولنا كي يتم تصنيفها ضمن بلدان ودول العالم العظمى، أو دول العالم الأول كما يطلق عليها أحياناً.
هناك مثال واضح على مبدأ التصنيف هذا ويُدخلنا مباشرة في صلب الموضوع وهي، روسيا، حيث لا تعتبر ضمن قائمة الدول العظمى رغم حجمها وقوتها العسكرية ووزنها الدولي، كذلك الصين والهند وكثير من الدول الأوروبية، فهناك شروط يجب توافرها في الدولة كي تكون عظمى، ومن هذه الشروط:
هذا الشرط من أهم الشروط على الإطلاق، فيجب أن تتمتع الدولة بديمقراطية حقيقية، وتداول حُر وسلمي للسلطة، وألا يكون هناك أي صورة من صور الديكتاتورية، لا يمكن لأي بلد أن يكون من ضمن العالم الأول مهما بلغ وزنه الدولي ولا يمتلك بعدُ ديمقراطية حقيقية حتى لو توفرت فيه كل شروط ومميزات الدول العظمى، فمثلاً الدول العظمى كأمريكا وكثير من دول أوروبا الغربية كبريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها لا يوجد بها ديكتاتورية، والسلطة هناك تتداولها الأحزاب ومرشحوها بحرية وسلمية وشفافية منقطعة النظير صراحة، حتى الملكية في بريطانيا وغيرها من دول أوروبا كإسبانيا مثلاً هي مَلَكيات صورية، فالأمر كله يرجع إلى رئيس الوزراء أو رئيس الدولة هناك حسب نظامها السياسي.
الشرط الثاني هو التعليم والبحث العلمي، فمن حيث التعليم يُقصد به نوعية التعليم وليس شرطاً المجانية أو عدد الجامعات والمعاهد بالرغم من أنه مطلب، فمثلاً الأردن هي أول دولة عربياً على مستوى نوعية التعليم، ولكنها الثلاثون على مستوى العالم حسب تصنيف منظمة اليونسكو، طبعاً عندما صُنفت الأردن كان ذلك باستثناء البحث العلمي، كما أنه لا يوجد اسم لجامعة عربية واحدة من بين المئة اسم الأولى لجامعات العالم حسب تصنيف اليونسكو أيضاً الذي يضم سنوياً 500 جامعة من حول العالم، تحتكر الولايات المتحدة الأمريكية عادة المراتب الخمس الأولى منها في كل عام.
من حيث البحث العلمي، يُقصد به هنا نسبة ما تنفقه الدولة على البحث العلمي ودعم البحوث في الجامعات والمراكز البحثية وغيرها من إجمالي الدخل القومي للبلد، فمثلاً هذه النسبة في الدول العربية قاطبة هي فقط عبارة عن 0.3% يعني أقل من نصف بالمئة من الدخل القومي الإجمالي، بينما تُخصص مثلاً دول أمريكا اللاتينية ما نسبته 0.6% من دخلها القومي الإجمالي، ودول جنوب شرق آسيا 2.7%، بينما اليابان وحدها تبلغ نسبتها 2.7%، وكلاً من السويد وسويسرا 3.3%، و2.6% في كل من فرنسا والدنمارك، وفي الولايات المتحدة الأمريكية 3%.
أما في دولة الاحتلال الصهيوني فقد بلغت نسبة الإنفاق على البحث العلمي من إجمالي الدخل القومي فيها إلى 4.7% وأعتقد أنها النسبة الأكبر عالمياً، رغم أن دولة الاحتلال لا تعتبر من الدول العظمى طبعاً، لكن لاحظ عزيزي القارئ نسبة ما تنفقه دولنا العربية على المواكب الرسمية للرؤساء والملوك والوزراء والمسؤولين، وما تنفقه على اقتناء سيارات المسؤولين والوزراء الباذخة، والمؤتمرات الخادعة والأسلحة والجيوش والبهرجة الفارغة وشراء اللوحات المزورة مثلاً بمئات الملايين، من إجمالي الدخل القومي الذي يتأتى 90% منه أصلاً من القروض أو المساعدات الخارجية والمنح، يعني تأتي معظم دخولها السنوية التي تغذي دخولها الإجمالية من الشحدة واستجداء الآخرين على الأبواب، أو يأتي من بيع المواد الخام في أحسن الأحوال كدول الخليج مثلاً، وأحياناً قد تصل نسبة مشاركة بيع الخام في الدخل القومي إلى أكثر من 95% كما هو الحال في السعودية مثلاً، بينما تصل نسبة بيع خام النفط في إيران إلى 45% فقط من إجمالي الدخل القومي بالمقارنة مع السعودية، لاحظ يا عزيزي.
هذا الشرط مهم جداً، تصور عزيزي القارئ أن الشعوب العربية فقدت عشرات آلاف القتلى، وملايين الجرحى والمهجرين والمشردين والنازحين، وعدة عشرات من الآلاف من الجثث التي ابتلعتها البحار جراء غرق زوارقها وهي في طريقها إلى بر الأمان الأوروبي، بالإضافة إلى تدمير المدن وجعلها خراب منذ عام 2011 كل ذلك كان في سبيل إسكات الشعوب التي طالبت أنظمتها العفنة في الحصول على الحرية أو في سبيل تحسين ظروف عيشهم على الأقل، لكن دون جدوى فالأنظمة العفنة المتحجرة تلك، ما زالت قائمة هذا ما تعنيه الحرية للشعوب بثمنها الباهظ.
على كل حال فالحرية شرط عظيم من شروط الدول العظمى وأنظمتها، على عكسنا نحن العرب تماماً، ويتضمن هذا الشرط طبعاً حرية الصحافة والإعلام، وحرية المعتقد، وحرية التعبير، وقد تصل هذه الحرية في الدول العظمى حد شتم الحاكم والنظام والأحزاب، طبعاً في بلادنا العربية هذا الشرط منعدم تماماً، بل يتم توظيف كل الأجهزة الأمنية والجيوش والمجالس التشريعية لتعمل جاهدة من أجل سد الطرق أمام تمكين الشعوب العربية من تقرير مصائرها وحصولها على الحرية كباقي شعوب العالم، حتى إنه تم سن قوانين في بلادنا اخترعت تُهمة أَطلقت عليها، تهمة إطالة اللسان، وهذه التهمة فضفاضة إلى حد عجيب وغريب للغاية، بحيث شملت حتى وضع لايك، إعجاب، على منشور على فيسبوك مثلاً، وقد يكون هذا اللايك قد ضَغط عليه صاحبه منذ ثلاث سنوات مثلاً، لاحظ يا رعاك الله.
وهو شرط آخر مهم، فالصحة والتأمين الصحي ونظام الضمان الاجتماعي والتقاعد، جميعها طبعاً شروط غاية في الأهمية بالنسبة لأنظمة الدول العظمى والمتنافسون على السلطة هناك، وعلى العكس من ذلك تماماً في الدول الضعيفة والمتخلفة، فالإخلال بتلك الشروط قد يخفض من تصنيف تلك الدول فيما لو تم إهمالها وتآكلها كما يحصل في بلادنا مثلاً، طبعاً الخوض في هذه الشرط كما يجب قد لا يستوعبه هذا المقال، لكن نحن نعلم ونشعر تماماً بتهالك أنظمتنا الصحية إدارياً وفنياً، وهناك قصور واضح في نظام معاشات الضمان الاجتماعي حسب الخبراء الاكتواريين، فمثلاً في بلدي هناك أقل من 1% من أولئك الذين يتقاضون معاشاً شهرياً من الضمان الاجتماعي ويكفل لهم هذا المعاش حياة كريمة أو شبه كريمة على الأقل دون أن يلتحقوا بعملٍ آخر، ونسبة الواحد بالمئة هذه ضخمة جداً فيما لو توخينا الدقة.
هذا الشرط يأتي طبعاً بعد كل الشروط السابقة رغم أهميته، فامتلاك الصناعات الرأسمالية، أو ما يطلق عليها الصناعات الاستراتيجية، مثل صناعة السيارات وصناعة الطائرات والسفن والبواخر، وصناعة المصانع وغيرها من الصناعات الثقيلة، مهم جداً للسيطرة على الأسواق العالمية واكتساب المزيد من الأسواق، لكن لاحظ عزيزي القارئ هناك دول كثيرة تمتلك صناعات رأسمالية كروسيا والصين والهند مثلاً، لكنها لا تدخل ضمن قائمة الدول العظمى لأنها لا تتمتع كدول بالمميزات المهمة الأولى كالديمقراطية والحرية والتعليم وغيرها، وربما تمتلك بعضا منها، لكن هناك نوع من أنواع الديكتاتورية أيضاً، وهذا أضخم العوائق، فمثلاً في الصين أصبح الرئيس الحالي، شي جين بينغ، حاكماً مطلقاً يستمر حكمه حتى يتوفاه الله أو يُحدِثَ اللهُ أمراً، وفي سبيل ذلك تم تغيير الدستور وتم إجبار مجلس النواب على المصادقة على هذا التغيير، وشي جين بينغ المطلق هذا، يتم تنفيذ رغبته الشديدة بالتنكيل بالمسلمين على أرض الواقع بأبشع الطرق والأساليب من خلال اضطهاد مسلمي الإيغور، في الهند كذلك هناك اضطهاد وتهميش واضح للمسلمين أيضاً، فمثلاً في البرلمان الهندي الذي يضم آلاف النواب لا يوجد نائب مسلم واحد ويسيطر السيخ هناك على المشهد السياسي بالكامل.
كل الدول العظمى هي دول زراعية وبامتياز أيضاً على المستويين الحيواني والنباتي، فمثلاً الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر أكبر الدول المصدرة للقمح واللوز على مستوى العالم، لكن أيضاً فالدول العظمى تستورد الطعام لكنها تضع شروطاً قاسية جداً لتقبل المنتجات الزراعية من الدول المصدرة، فالدول التي تصدر منتجاتها الزراعية لأمريكا تسمى الدول الحاضنة بحيث يكون هناك مستثمرون أو مزارعون أمريكيون يستغلون الأراضي والأيدي العاملة الرخيصة هناك، وقد يكون أيضاً مزارعون كبار من نفس البلد الحاضن لكنه يخضع تماماً للمقاييس الأمريكية في الإنتاج بحيث لن نجد أياً من تلك المنتجات تباع في الأسواق المحلية، لأنها ستكون حينها باهظة الثمن، وأيضاً من أجل الحفاظ على الاستمرارية في تزيد السوق الأمريكي بهذه المنتجات الزراعية، على سبيل المثال طبعاً.
الذي يهمنا من ذلك أن الدول العظمى هي دول زراعية ولا يمكن لها أن تعتمد على دول أخرى في تأمين قوت شعوبها والتحكم بها، كما هو الحال بالنسبة للدول الضعيفة كبلداننا العربية قاطبة.
قد يكون هذا الشرط تحصيل حاصل في الدول العظمى، لكنه أيضاً من المميزات المهمة بالنسبة للدول العظمى، فبالرغم من أن أمريكا انسحبت من اتفاقية مؤتمر باريس للمناخ الذي عقد في 2015 إلا أن ذلك لا يعني البتة عدم اهتمامها بالبيئة، فالمشاكل البيئية في أمريكا دائماً ضمن الخطط الرئاسية للمرشحين الرئاسيين أثناء الدعاية الانتخابية، بل إن هناك حزباً سياسياً كاملاً يعتمد على خططه البيئية للفوز بمقعد الرئاسة.
أيضاً يعتبر هذا الشرط تحصيل حاصل بالنسبة إلى الدول العظمى، لأنه يُقصد به حالة الفرد بالنسبة لكافة الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية والروحية والطبية، وهذا كله يندرج تحت مصطلح، جودة حياة الفرد، ويقاس الرفاه الاجتماعي بمستوى معيشة الفرد وحصته من الدخل القومي، ولا يمكن للفرد أن يتمتع بنسبة محترمة من الرفاه الاجتماعي في دولة ما قبل أن تتحقق كل مزايا الدول العظمى سالفة الذكر، غير أن نسبة الرفاه الاجتماعي ليس بالضرورة تختص فقط بالدول العظمى، فقد يعيش الفرد بنسبة عالية من الرفاه وجودة الحياة في دول لا تتحقق فيها شروط الحرية والديمقراطية مثلاً، وخير مثال على ذلك الإمارات والسعودية وكثير من دول الخليج العربي على سبيل المثال وليس الحصر.
لكن جودة الحياة للفرد بمفهومها الواسع في الدول العظمى باتت ترتبط بالمناخ أيضاً، فالتغير المناخي سيجعل من سكان المعمورة أفراداً وجماعات بائسين بغضّ النظر أكانوا من سكان الدول العظمى أم سكان الدول الفقيرة والضعيفة، لذلك فالدول العظمى باتت تهتم بتأسيس قاعدة بيانات ضخمة تختص بظاهرة الاحتباس الحراري وتغير المناخ لجعل مواطنيها في قمة الرفاه الاجتماعي رغم تدهور أحوال مناخات كوكبنا ككل، وهذا أيضاً ما سيظل يميزها كدول عظمى.
هذا الشرط هو الشرط الذي أسميه السهل الممتنع -إن صح التعبير- فلا بد للدول العظمى حين تريد أن تكون عظمى بأن تكون قوة عسكرية ضخمة أيضاً إلى جانب الالتزام الكامل بكل الشروط السابقة، وربما يجب عليها أن تمتلك الردع النووي، غير أنه كشرط يأتي في ذيل تلك الشروط الطويلة، فمثلاً هناك دول عربية تتمتع بقوة عسكرية كبيرة، غير أنه لا وزن لها يذكر كبلاد على الساحة الدولية ولا حتى على الساحة الإقليمية، دون ذكر دول عربية بعينها، خاصة تلك الدول التي تتربع على رأس قائمة أكبر الدول إنفاقاً عسكرياً وشراءً للأسلحة والعتاد، وهناك دول تمتلك الردع النووي كباكستان مثلاً لكن لا وزن لها على الساحة الدولية.
هذا شرط غاية في الأهمية، فهو يسبق كلاً من الديمقراطية والحرية، لأن البلد الذي تتمتع حكومته ومؤسساته بشفافية كبيرة يكون ديمقراطياً وحراً ومتميز بالتعليم والصحة، في الحقيقة عزيزي القارئ أخجل من أن أتحدث عن الشفافية، ولذلك آثرت تأجيلها كشرط إلى آخر المقال، وكنتُ أُحدِّث نفسي بألا آتي على ذكرها بالمرة، أتعلمون لماذا؟ لأنكم حينها ستكتشفون أنكم كعرب تعيشيون في ما يشبه حظائر الحيوانات، أو ستشعرون في أحسن الأحوال بأنكم تعيشون في وكرٍ تعيث العصابات فيه فساداً، خلِّي الطابق مستور.
إذا ً عزيزي القارئ، الشرط الوحيد كي نكون من ضمن قائمة الدول العظمى، وهو ما سيفتح لنا الأبواب على مصراعيها في حين أردنا تحقيق كل شروط الدول العظمى، هو شرط إصلاح الأنظمة الحالية، هذا الشرط نعترف بأنه غاية في الصعوبة في حال تم العزم الفعلي عليه، وتحقيقه يعتمد عليكَ أنت، علينا جميعاً، لكنه يبدو مستحيل، والاستحالة هذه ستبقى قائمة حتى لو نزلَ علينا مِنَ السماءِ كتاباً نقرأهُ في ذلك، والواجب حينها هو تغيير الشعوب أو تغيير كل شيء، هذا واللهُ وليُّ التوفيق.
المصدر: عربي بوست