محمد الحكيمي (خاص) حلم أخضر
ثمة تركة عظيمة امتازت بها الارض اليمنية، ومنحت البلد سمعة تاريخية منذ القدم. إنها الزراعة التي برع الفلاح اليمني بتطوير تقنياتها وتطويع الأرض بخصوصية مدهشة. كان اسم اليمن قديماً يرتبط باحتكار شجر اللبان والمُر، والعنب، وكذلك البن.
لكن اليمن في القرن العشرين، -وبرغم انه لم يعد كما السابق- إلا أنه عاد للحضور الزراعي، ليطور فلاح يمني صنف جديد من المحاصيل التي لم يكن يعرفها الناس في العالم العربي، واليكم ما حدث بالضبط.
في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، استطاع الفلاح اليمني، صالح محفوظ بافطيم، ابتكار بذور فائقة الجودة من البصل، أنتج منها لأول مرة على مستوى منطقة الشرق الأوسط محصول البصل ذو اللون الأحمر، والأبيض، ومن ثم البصل الأصفر، والذي أطلق عليه اسمه، بعد تسجيله عربياً كبراءة ابتكار باسم (بصل بافطيم BAFTAIM).
ولد صالح محفوظ بافطيم، في العام 1928، في مدينة سيئون، التابعة لمحافظة حضرموت شرق اليمن، وعرف عنه حبه للأرض وعشقه لمهنة الزراعة بصورة لافتة. تزوج بافطيم في مطلع شبابه، وأنجب 9 من الأبناء، منهم 3 ذكور و6 بنات. اشتغل بفلاحة الأرض كمهنة متوارثة، واكتسب الرجل خبرة استثنائية طيلة نصف قرن، لينجح بعدها في تطوير أصناف بذور جديدة من المحاصيل الغذائية أهمها البصل، والقمح، والنخيل، وعُـرف عنه نبل أخلاقه بين أصدقائه وزملائه المزارعين.
عاش بافطيم في سيئون، حياة بسيطة يحركها النشاط وحب الأرض، ولم يكن يخبر أحداً بأنه سيبتكر ذات يوم أفضل أنواع البصل على مستوى العالم العربي. وقد فعل ذلك بمجهوده الشخصي، وخبرته الطويلة، وبموهبته الفذة وحبه للأرض والزراعة.
لا أحد يدري بالضبط كيف استطاع الفلاح بافطيم التوصل بعبقرية لابتكار بذور هذا الصنف من البصل الأحمر الذي لم يكن يعرفه كل الفلاحين في المنطقة العربية. فبمجرد اكتشاف بافطيم لهذا الصنف من بذور البصل، بعد زراعته بمزرعته، وحصوله على محصول بصل فائق الجودة من حيث الطعم ومقاومته للأمراض، وطول فترة بقائه باستدامة. قام بالتقدم به للجهات الزراعية المختصة في سيئون، ليخضع -بصل بافطيم- لاختبارات عديدة من قبل المهندسين الزراعيين في محطة البحوث الزراعية في مدينة سيئون، وكانت النتيجة مدهشة للغاية، في جودة بصل بافطيم وجدوى انتاجه، ومقاومته للتلف. وهو يتفوق عربياً على كل الأصناف.
استطاع الفلاح بافطيم من خلال تجاربه الطويلة، ابتكار أربعة أصناف من البصل، أطلقت عليها الأسماء التالية: بصل بافطيم الأحمر المُحسّـن رقم 1، وبصل بافطيم الأحمر المُحسّـن رقم 2. وبصل بافطيم الأصفر، وبصل بافطيم الأبيض.
وطبقاً لمؤسسة الرضا لإكثار البذور في حضرموت، أصبح بصل بافطيم BAFTAIM علامة تجارية مسجلة في السوق اليمني، وخارجياً مسجلة في أسواق: عُمان، سوريا، تونس، المغرب، الجزائر، السودان، إثيوبيا، اريتريا، وجنوب إفريقيا، وستخضع أيضاً للتسجيل في كلا من مصر، وكينيا. وبحسب المؤسسة، فان بذور بصل بافطيم المحسنة ذو اللون الأحمر، لها إنتاجية عالية وهي متجانسة الشكل واللون والحجم، وتعد أبصالها كروية الشكل، وهي مقاومة للازدواج، وأقل قابلية للإزهار الحولي، ومقاومة للأمراض، وتتميز بذور بصل بافطيم بمقدرة تخزينية عالية تمتد إلى حوالي تمتد من 6 أشهر – 12 شهر، حتى تحت ظروف الخزن المكشوف. في حين ان بذور بصل بافطيم الأصفر، مماثلة في مميزاتها للصنف الأحمر.
ويذكر مصدر مختص في وزارة الزراعة اليمنية، لموقع “حلم أخضر” -فضل عدم ذكر أسمه-أن “هناك عدد من الدول العربية قامت بزراعة بصل بافطيم في بلدانها، منها: سلطنة عمان، ومصر، والسودان، سوريا، والصومال، بالإضافة لبعض الهيئات والجمعيات الزراعية في بلدان عربية. ووجدت أن إنتاجيته عالية، لان بصل بافطيم يصنف ضمن أنواع البصل التي تصلح للتصدير نظراً لقدرته الطويلة على التخزين مقارنة بالأنواع الأخرى”.
نتيجة لجدارة الابتكار، حاز (بصل بافطيم) على جوائز عدة، أبرزها جائزة الإبداع العلمي من المنظمة العربية للتنمية الزراعية (التابعة لجامعة الدول العربية) في العام 1998، والتي صنفته كأحسن صنف لبذور البصل على مستوى دول الوطن العربي. وصار اليوم اسم بافطيم ذائع الصيت أمام المحافل الزراعية العربية والاقليمية، باعتباره الفلاح الأول الذي ابتكر بذوراً أنتجت البصل الأحمر (بصل بافطيم) ذو الجودة العالية على مستوى المنطقة العربية.
وتفيد وزارة الزراعة اليمنية، ان صنف (بصل بافطيم) هو عصارة جهد لسنوات طويلة، للفلاح الكبير المعروف بتجاربه، وخبراته، صالح بافطيم، وقد قامت هيئة البحوث الزراعية في سيئون، بتطوير زراعته، وتسجيله، وحصل (بصل بافطيم) على جائزة الإبداع العلمي من المنظمة العربية للتنمية الزراعية في العام 1998.
ونتيجة ذلك، حصل صالح بافطيم على لقب رسمي على مستوى اليمن. إذ صار يدعى بلقب (الفلاح اليمني الأول) نتيجة حصوله وتكريمه على العديد من الشهادات التكريمية من الجهات الرسمية المحلية، ومن منظمات زراعية غير حكومية إقليمية. كما كرمته وزارة الزراعة اليمنية، ولاقى دروعاً وشهادات تقديرية من معظم الهيئات والمؤسسات الزراعية والصناعية في اليمن. وفي العام 2006، نال بافطيم جائزة الصناعة من وزارة الصناعة والتجارة اليمنية.
وطبقاً للموقع الرسمي للسلطة المحلية بمحافظة حضرموت، حاز بافطيم على تكريم رئاسي، من قبل الرئيس السابق علي عبد الله صالح، إذ قام الأخير بزيارة الى مزرعة بافطيم في سيئون، ووجه السلطة المحلية بحفر بئر للمياه، ومنحه حراثة زراعية، ووجه بتوسيع مزرعة بافطيم المتواضعة، ومنحه عدد من الفدانات الإضافية، بصفته فلاح يمني غير عادي، وذو قدرات خارقة في التعامل مع استنباط واستزراع وإكثار ليس فقط بذور البصل التي تحمل اسمه، بل أيضا لتطويره لأصناف القمح، والطماطم، والذرة الرفيعة، التي تزرعها المنطقة، بالإضافة الى نجاح بافطيم في استزراع فسائل النخيل المستنبتة بالأنسجة.
طبقاً لاحد المصادر العلمية، تصنف اليمن باعتبارها من أهم البلدان العربية في إنتاج البصل. وتاريخياً ترجع زراعة البصل في المنطقة الممتدة من فلسطين حتى الهند، وانتقلت زراعة البصل من المنطقة إلى مصر، حيث وجد منقوشاً على آثار القدماء المصريين. ويزرع البصل الآن في الكثير من بلدان العالم، لكن من أهم البلدان التي تقوم بزراعته بجودة عالية، هي: اسبانيا، ايطاليا، هولندا، بولندا، واليابان، واليمن على المستوى العربي.
ويعد البصل من أهم المحاصيل التي تزرع على نطاق واسع في مناطق عدة في اليمن، أهمها وأبرزها وادي حضرموت، فبحسب المعلومات يبلغ متوسط المناطق المزروعة بالبصل سنوياً في وادي حضرموت قرابة 800 هكتار من الاراضي الزراعية. إذ يقبل المزارعين على زراعته في الصيف والشتاء، ويستحوذ وادي حضرموت بزراعة ما نسبته 18% من اجمالي المساحة المزروعة في اليمن.
وطبقاً لبيانات التقرير السنوي للغرفة التجارية والصناعية في وادي حضرموت والصحراء، فإن صادرات البصل بلغت 26,185 ألف طن بقيمة إجمالية قرابة 529 مليوناً و959 ألف ريال في العام 2016. ويعود سبب ذلك النجاح لقيام الفلاحين بتأسيس جمعية الفلاح الحضرمية التي تضم أكثر من 500 فلاح من أبناء حضرموت كمساهمين ومالكين للأراضي الزراعية.
وفي تصريح صحفي، قال أمين عام جمعية الفلاح الحضرمية الإنتاجية، محمد الجابري، لقناة بلقيس الفضائية، أن “الجمعية قامت بتصدير 8000 ألف طن من البصل، خلال الموسم 2016-2017 إلى دول الجوار”. منها المملكة العربية السعودية، وعمان والامارات والصومال”. بالرغم من ظروف الحرب والحصار التي تشهدها البلاد. وزيادة القيود في المنافذ على حركة الصادرات التجارية المحلية.
وكمؤشر على تراجع مستوى إنتاج محصول البصل، تشير احدى المصادر الى أن إنتاجية محافظة حضرموت من البصل، بلغت في العام 2005، قرابة 10,255 ألف طن من البصل. وكانت المساحة المزروعة تقدر بحوالي 1.200 هكتار. وكان تزايد الإنتاج يرتفع كل عام بمعدل 2.4%.
تمر الآن، الذكرى العاشرة لرحيل الفلاح صالح بافطيم. فقبل 10 سنوات من اليوم، توفي الفلاح صالح بافطيم، وهو في عمر الـ82 عاماً، يوم الخميس 4 نوفمبر 2010، في مدينة سيئون. وأصدرت السلطة المحلية بوادي وصحراء حضرموت بيان نعي رسمي لوفاته.
وفي موكب جنائزي مهيب، شيعت مدينة سيئون جنازة مزارع اليمن الأول، وأعظم الفلاحين اليمنين، والذي وافاه الأجل بعد صراع مع المرض، لاقى خلاله الإهمال من السلطة، بحسب تصريحات ابنه عبد الله بافطيم، الذي أكد في حديثه لقناة “السعيدة” أن “الجميع تخلى عن والده أيام فترة مرضه”. لتنتهي مسيرة فلاح استثنائي، أحب الأرض اليمنية، وبنى علاقة اكتشاف معها، وغرس فيها اكتشافاته، ثم غرس جسده فيها في رحلة، لا يفهمها غير من أحب التربة وأنبتها.
* هذا التقرير خاص بمنصة حلم أخضر، يمنع نشره دون الاشارة إليه كمصدر.