"كل من يراني يظنني مصابًا بالجنون"، بهذه الكلمات يبدأ الفنان التشكيلي ياسين غالب بشرح قصته؛ فإذ يجمع بقايا الخردوات من الشوارع الخلفية للعاصمة صنعاء، يظنه مجنونًا كل من يراه.
يلتقط المهندس المعماري ياسين غالب أي خردة يراها حيث لا يشعر إلا وقد وضعها في جيبه. لكنه إلى ذلك ينتابه إحساس آخر؛ إذ ينفذ إلى ما تتضمنه كل قطعة يرى فيها قصة تخفي كثيرًا من التفاصيل, وفي ذلك جمال لا يراه الآخرون, كما يقول.
ياسين, الذي تخرج من جامعة خاركوف بالاتحاد السوفياتي (أوكرانيا حاليًا) عام 1983, يحوّل بقايا البلاستيك والزنك والخشب وحتى بعض عظام الحيوانات وكثير من الأشياء المهملة إلى تحف فنية غاية في الإبداع والغرابة، تحمل مدلولات متعددة؛ إنسانية منها إلى جانب محاكاة الفلكلور الشعبي وأخرى عالمية.. فدرعُ حربٍ قديمة هو في الأصل بقايا عظام إحدى الأبقار، ولوحة الصرخة شكّلها من قطعة حذاء مهترئة.
يمتلك ياسين غالب معملًا خاصًا في منزله بالعاصمة صنعاء لممارسة هوايته الفريدة في تحويل المخلفات إلى لوحات جميلة، باتت جدران منزله تضج بها.. يبيع بعضها لكسب مصروفاته في ظل مأساة الحرب التي تعيشها اليمن, ويهدي بعضها إلى أصدقائه.
"في الحياة كل شيء له قيمة، المهم الفكرة. كيف تصنع شيئًا من أشياء تالفة؟ وكيف تبتكر شيئًا جديدًا لم يسبقك إليه أحد من قبل؟" تلك هي المسألة حد قوله.
يستعرض ياسين غالب, ذو الـ63عامًا، والذي يعيش مع زوجته وأولاده الأربعة في منزل يملكه بالعاصمة صنعاء، بعض الخردوات التي جمعها منذ ثمانينيات القرن الماضي من مناطق يمنية مختلفة، ويسرد بدايته في هذا الاهتمام "عملي في جانب الهندسة المعمارية هو الذي دفعني إلى هذا المجال, ناهيك عن الأفكار الملقاة في الطريق التي تطلق النداء الأول لي".
"عندما أرى قطعة مرمية أفكر كيف يمكنني أن أحولها إلى لوحة أو تحفة فنية، وكثيرًا من الوقت أتجول في الشوارع بحثًا عن المخلفات التي يمكنني من خلالها استكمال صنع لوحاتي"، يضيف ياسين الذي انظم إلى جمعية الفنانين التشكيليين اليمنيين عام 1988.
يدخن سيجارته بشراهة ويتذكر أول معرض له أقيم عام 1995 في صالة الفنان فؤاد الفتيح لقطع فنية صنعها من الخردة التي جمعها من سوق الملح بمدينة صنعاء القديمة "كان هناك إقبال لعشاق الفن التشكيلي غير متوقع، وغالبية الحضور اقتنوا كل اللوحات المعروضة؛ الأمر الذي دفعني للاستمرار في هذه المهنة بشغف أكثر حد الجنون".
يتجول في مجلسه الذي تحتضن جدرانه أبرز أعماله الفنية, متحدثًا عن علاقته بصنعته "وجدتُ لي متنفسًا جميلًا. كل مرة أبدأ العمل أشعر براحة نفسية وبالرغبة في صنع المزيد".
قد يرى البعض أن ياسين غالب, وهو أب لأربعة أولاد أكبرهم سلمى ذات الـ33 عامًا, غير مهتم بنظافته الشخصية حين يجمع هذه القطع الخردة من الشوارع، لكنه يحرص على غسلها بالماء والصابون بعد إيصالها إلى المنزل، حسب حديثه لـ"صوت إنسان".
يقف في الشارع لدقائق وربما أكثر ليرى ما لا يراه الآخرون متأملًا أشكال هذه الخردوات التي تطلق نداءها أولًا, حد تعبيره, وسرعان ما يلتقط اللحظة ويصطحبها إلى منزله. يوضح ضاحكًا "بينما الناس يصلون إلى منازلهم ويبدءون في تناول الطعام, أصل أنا لأقوم بغسل المخلفات وأبدأ بالعمل على إدخالها إلى عالمي ومن ثم أتناول الغداء".
أكثر من 100 لوحة في منزله بالعاصمة صنعاء، ولكل منها دلائل ومعاني بعضها تعود إلى عصور قديمة، يبين في لوحة منها مكونة من الجلد على أن المئزر كان يلبسه الرجل اليمني منذ القدم. وفي لوحة أسماها "بانوراما", جسد ياسين غالب الأسوار القديمة التي كانت تحوط بعض المدن والقرى اليمنية، وهي مكونة من بقايا أحذية منتهية الصلاحية عمل على تحويلها لتكون شبيهة بالأسوار.
يواجه ياسين في هوايته موقف المقربين منه الذين يجدهم غير معجبين بما يقوم به. فزوجته فضيلة الحامد، وهي أيضًا فنانة تشكيلية مختصة بالتطريز, تقول إن منزلهما مكتظ بالمخلفات "أشعر بانزعاج شديد عندما يأتي بالقطع الخشبية والعلب الصدئة والبلاستيكية التي أنظر لها كقمامة وهو ينظر لها كتحفة", لكنها تستدرك "عندما أراه مشغولًا ومنهمكًا بها أرتاح كثيرًا".
وكلما يغادر الفنان منزله, ترمي زوجته مخلفات المخلفات إلى منطقة بعيدة كي لا يجدها مرة أخرى.
"فلسفة غالب في صناعته للجمال من الأشياء المهملة: "لكل شيء قيمته حتى وإن كان من القمامة. لا تنتهي الأشياء بل تتحول", وهنا يأتي دوره في هذه الصنعة المستمرة معه منذ أربعة عقود بحسب حديثه لنا".
حرمت الحرب الطاحنة التي تشهدها اليمن ياسين من إقامة المعارض الفنية, كما تسببت في انقطاع راتبه الشهري منذ أكثر من خمس سنوات. حاليًا تتراكم لوحاته كما تتراكم همومه المعيشية أيضًا. يأمل بعودة السلام إلى البلد التي عانت طويلًا ويلات الحروب؛ حتى يتمكن من عرض لوحاته وبيعها.
قبل أن تندلع الأعمال القتالية التي تدخل عامها السادس على التوالي, كان ياسين يتنقل في مختلف المناطق اليمنية بشكل دوري؛ لجمع الخردوات والعمل على تحويلها, لكن استشراء الصراع في معظم المحافظات وإلى جانب الوضع الاقتصادي الأسوأ في تاريخ البلد, كل ذلك أقعده إجباريًا في منزله بالعاصمة صنعاء.
وعلى الرغم من إقامته الجبرية بسبب الحرب, إلا أن ياسين غالب ما زال يغالب الظروف المريرة للاستمرار في صناعة الجمال.
*ينشر بالتزامن مع موقع "صوت إنسان"