كيف يمكن لامرئ أن يقضي حياته دون أن يسرق أو يخسر كتابا!
تساؤل يفتح شريط الذاكرة على قصص لاتنتهي مع من تربى على القراءة القسرية.
القراءة القسرية؟
نعم.. القراءة القسرية، فقد كان والدي يتيح لي اختيار ما أشاء من الكتب واستخلاص أجمل ما أعجبني وتسليمها له مكتوبة حين يعود في المساء.
أصبح الأمر اختياريا بعد أن وصلت مرحلة الاستمتاع بالحكاية، وهنا جاءت أول حادثة سرقة كتاب قمت بها.
كان من ضمن مكتبة والدي المبعثرة كتاب أصبحت أوراقه بنية اللون، عنوانه (المياسة والمقداد)، وهو الرواية الشعبية لقصة العشق الشعبية بين المياسة ابنة جابر الضحاك الكندي وابن عمها المقداد بن الأسود الكندي.
قرأت الحكاية بشغف، ومن شدة إعجابي بها قررت إهداءها لزميل في المدرسة ليشاركني معرفة تلك الملحمة، وكتبت الإهداء ل (مفيد)، وكان إلى جواره في الفصل زميل آخر اسمه (فارس) اكتشف الكتاب بين كتب مفيد وقرأ إهدائي عليه وكانت بداية سخرية طفولية وصلت حد القطيعة، بينما كنت في الأساس خائف من فكرة انكشاف حكاية تسريب كتاب يخص الوالد.
كانت تلك البداية، وكانت (الرهينة) لزيد مطيع دماج ثاني رواية أقرأها، وهي تلك الرواية ذات الغلاف الأزرق الصادرة عن دار الآداب، والتي كان والدي يرسلها لمدرسي القرية وينقلها من واحد إلى آخر حتى تهالكت، أما أسوأ الروايات التي لم استطع قراءتها في الطفولة هي (البؤساء) رغم إصرار والدي، كانت أسماء أبطالها أجنبية وأرهقني حفظها.
أول كتاب حصلت عليه هدية كان (الأعمال الكاملة لنزار قباني) وقد أهداني إياه مدير الإعلام في جامعة تعز عبدالناصر اليوسفي، وكانت حينها أول زيارة له في بيته أثناء توجهي لدراسة الإعلام في جامعة صنعاء، وتعرفت في أول أيامي على عدد من الزملاء ممن كانت تلفت انتباهي مداخلاتهم في قاعات كلية الإعلام وكان بينهم الأصدقاء عارف ابو حاتم، وعقيل الحلالي، وعبدالغني الماوري وغيرهم.
مع الأيام أدركت أن عبدالغني مفتون بنزار قباني، وزرته في غرفته في حوش منزلهم في صنعاء ووجدت لديه مكتبة جيدة لطالب في بداية سنواته الجامعية، وقررت أن أعيره الأعمال الكاملة لنزار، ومنذ ذلك الحين وبعد مرور 19 عاما لم يعد ذلك الكتاب.
في أيام الجامعة تعرفت بصديق العمر نبيل الأسيدي الذي كان يدرس قبلي بعام واحد، بدأنا البحث عن غرفة، فوجدنا غرفة في (البونية) مطلة على بستان رمان وفيها حكايات لاتنسى، وبدأنا نشتري الكتب سواء بالدَّين من كشك الجامعة، أو بما نجده من مقابل الإنتاج الفكري من صحيفة (رأي) أو (الشورى) أو غيرها.
بعد مرور قرابة سبع سنوات من التنقل معا في بيوت عديدة في البونية وشارع القيادة وشارع 16 وباب شعوب، و(غرفة توفيق) في شارع الرباط، قرر الاستقرار وتزوج ونقل كل الكتب إلى منزله، وكان ديكتاتورا فيما يتعلق بالكتب وترك لي بعض المجلات، وبعض سلسلة عالم المعرفة التي كنت أستدينها من (العم علي) رحمه الله في كشك الجامعة.
ذات يوم كنت في عزومة في منزل نبيل، وكانت المكتبة أمام المعزومين مليئة بالكتب، وعلى سبيل (حشوش) المجالس قلت للموجودين إن نصف كتب هذه المكتبة تابعة لي، فكذّب نبيل ذلك وقلت لهم سأخرج كتابا عشوائيا وننظر ماهو مكتوب داخله، وبالصدفة اخترت كتابا وفتحت الغلاف وفي الصفحة الأولى كان اسمي مكتوبا، فظل طوال النهار يبرر سرقته لكتبي مع كتبه.
ربما لن أغفر لنبيل هذه السرقة ماحييت، لأن ديوني لكشك الجامعة استمرت لسنوات طويلة، واختفى العم علي ولم أجده لسنوات قبل أن أجده بالصدفة بالقرب من المكان، فحدثنى عن غربته في السعودية ثم عودته إلى اليمن وكانت ملامحه تكشف مافعلت به تلك السنين، ولحسن الحظ كان راتبي قد وصل في ذلك اليوم فسحبته من الصراف الآلي ومنحت نصفه للرجل بعد صراع معه أنها دين عندي بينما هو يصر أنه لم يعد عليَ شيء وأنه أقفل حسابه في الكشك منذ زمن.
من أكثر الحكايات التي لا أنساها هي حكاية الصديق وزميل الجامعة عارف الأتام، ذات يوم دعاني للغداء في منزله في العاصمة صنعاء، وكان غداء ريفيا لاينسى، لكن الصدفة قادتني للتأمل في مكتبته، وفجأة لمحت ديوان (صنعاء.. مقامات الدهشة) لأحمد ضيف الله العواضي، وهو الديوان الذي كنت مغرما بمفرادته الموسيقية الشعرية، وكتبت عنه استعراضا في إحدى الصحف.
الديوان كان من أوائل الكتب التي حصلت على توقيع كاتبها، وكنت مفتونا بالتوقيع الذي كتبه لي الشاعر العواضي وكان حينها رئيس اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين فرع صنعاء.
قمت إلى مكتبة صديقي عارف في منزله بينما كان يتأمل صامتا، سحبت الديوان من المكتبة وفتحت أول صفحة فكانت الصدمة أنه ذات النسخة الموقعة من المؤلف باسمي، ونظرت لعارف وقد اعتلت وجهه ابتسامة بلهاء، وسألته كيف وصل إلى هنا، وأصر أنه لايعرف كيف وصل.
سنوات الجامعة كانت أكثر الأيام التي اشتريت فيها كتب وفقدتها بسبب كثرة التنقل بين غرف (العزوبية)، (غرفة توفيق) أحد أماكن السكن التي أمضيت فيها مدة من الزمن مع زملاء الكفاح الجامعي.
غرفة توفيق كما كان تسمى هي غرفة مطلة على أرضية مسورة في شارع الرباط أمام المقر السابق للتنظيم الناصري وكان صاحبها الصديق توفيق الشرعبي المسؤول حاليا في الفضائية اليمنية، وهذه الغرفة فيها من الحكايات والأحلام والآلام والقصص مالاتختزله كتب, وقد مر عليها عدد كبير ممن أصبحوا أقلاما صحفية بارزة بعد ذلك.
كانت الغرفة تسير بنظام صارم وحين انتقل توفيق إلى بيت الزوجية بدأ النظام يتهاوى في الغرفة، ثم غادرتها في ظل إدارة عبدالملك الفهيدي الذي أصبح رئيسا لتحرير موقع (المؤتمر نت)، وكان لدي في الغرفة كرتون من الكتب، وضعتها في بدروم خاص بالغرفة في الدور الأرضي، وبعد مدة ذهبت للبحث عنه، فاتضح أنه تم تقاسم الكرتون بين الفهيدي ومحمد الحيدري الذي صار صحفيا في المؤتمر نت لاحقا، وآخرين ولم يعد أي كتاب منها حتى اليوم.
بعد حين كنت أعمل محررا في صحيفة (رأي) وأسكن في غرفة بشارع الدائري جوار قسم شرطة الجديري، في تلك الفترة كنت مهتما بعرض الكتب ونشرها في صحيفة (الثقافية)، وكان لدي مجموعة من الكتب لابأس بها ووضعتها في اثنين من الرفوف في نافذة داخلية في جدار الغرفة.
غبت عدة أيام عن المنزل، وكنت في كثير من الأحيان أبقى لأيام مع أصدقاء هنا أو هناك، وحين عدت صدمت بأن كل شيء انسرق من البيت بما فيها الكتب كاملة، ولم أجد غريما لها.
بعد أيام كان حمدي البكاري يتصل بي صارخا في سماعة الهاتف، معقول وصلت لمرحلة تبيع كتبك؟
سألته ماذا تقصد، ففاجأني أنه وجد رواية (عشب الليل) لإبراهيم الكوني عند باعة الكتب في شارع التحرير واسمي مكتوب في أول ورقة بعد الغلاف، وكانت هذه الرواية قد اشتريتها من ليبيا أثناء مشاركة طلابية في جامعة ناصر قبل قرابة 17 عاما.
ذات يوم حين كنت أعمل مراسلا لصحيفة (عكاظ) مع العزيز نبيل الأسيدي ركبنا في سيارة الدكتور فارس السقاف رئيس الهيئة العامة للكتاب حينها، وكان يتحدث عن مشروع أصدقاء الكتاب محاولا استقطاب مسؤولين حكوميين وقادة عسكريين لدعم مشروعه وعلى رأس قائمة أصدقاء الكتاب كان أحمد علي عبدالله صالح نجل الرئيس السابق.
كان نبيل إلى جوار السقاف في السيارة وأنا في الكرسي الثاني، والتفتت فوجدت كتابين أحدهما للمفكر الأمريكي نعوم تشومسكي وكتاب أجنبي آخر حول حرب الخليج.
فتحت الكتابين وفيهما إهداء لأحمد علي عبدالله صالح بتوقيع الدكتور فارس السقاف.. قلبت الأمر في رأسي وتساءلت هل لدى أحمد علي وقت ليقرأ نعوم تشومسكي!!
تذكرت لحظتها فتوى ساخرة من الكاتب جمال أنعم في إحدى الجلسات، حين قال كل السرقة حرام عدا سرقة الكتب.
كان لدي كيس فيه نسخ من صحف عكاظ فوضعت الكتابين في الكيس وغادرت منتشيا لاختطاف شيء كانت ستتزين به مكتبة أحمد علي.
قرأت الكتابين وكتبت عرضا لكتاب نعوم تشومسكي في صحيفة الثقافية وربما انتفع به بعض القراء.
كانت تلك السرقة الوحيدة من غير أصدقائي.
من يعرف حمدي البكاري يعرف كم هو أكثر الأشخاص كرما هو وجميع من عرفت من عائلة البكاري.. بدأت صداقتنا قبل 17 عاما منذ تخرجه من كلية الإعلام، لكنه على غير هذا الوصف كان أبخل شخص بالكتب.
عشرات المرات زرت منزله ولم أتمكن من اختراق مكتبته واختطاف أي كتاب سوى مرة واحدة، حين طلبت منه أن يعطيني (مرق) قبل الغداء، ودخل إلى المطبخ فاستفردت بالمكتبة وخطفت رواية (موسم الهجرة إلى الشمال).
المشكلة التي عانيت منها طوال النهار أنني خبأت الكتاب خلف القميص عند البطن، وتغديت معه وأنا على تلك الحالة، والأسوأ أنه أصر على المقيل سويا، ولكم أن تتخيلوا المقيل مع كتاب عند البطن، لكن حين كنت اغوص في كشاهد مصطفى سعيد (لطل الرواية) تناسيت معاناة إخفاءها طوال ذلك اليوم خلف القميص.
لم أعترف له بالواقعة حتى هذه اللحظة.
من الأصدقاء الذين تعلمت أن لا أترك كتاب أمامهم هو راجح بادي، والذي حسب ما أعتقد يعمل بفتوى جمال أنعم كثيرا، ومازالت لديه رواية (سمرقند) منذ سنوات استعارها مني ولم يعدها إلى هذه اللحظة.
محمد الأسعدي أحد الأصدقاء الرائعين، وبرغم قدرته الإدارية المدهشة وطاقته الوقادة، وإخلاصه لما يعمل، لكنه وقع ضحية إرهاقه ذات يوم أثناء مؤتمر الحوار الوطني، فقد حدثني عن رواية (ساق البامبو) عقب صدورها حينها وفوزها بالبوكر، واتفقنا على أن أمنحه (دروز بلغراد) التي فازت ببوكر العام الذي سبق بوكر ساق البامبو، وهكذا تم الأمر.
كان رده قاسيا حيال رواية دروز بلغراد ولم يستطع مواصلة قراءتها، وطلب إعادة ساق البامبو، ولحظتها قلت له إنني رددتها له في مكتبه، وقال لا أتذكر، أقنعته إن (الدوشة) وكثرة انشغاله جعلته ينسى، فاقتنع، لكنه كان بين حين وآخر يسأل عنها.
المهم مشت..
أما من الأصدقاء الذين لم يعيدوا بعض الكتب حتى اللحظة محمد الظاهري رفيق المهنة وصديق الأيام الأقسى، وقد استعار (الحب في زمن الكوليرا) ولم يعيدها حتى اللحظة، وأعتقد أنه سيستفيد منها في هذه المرحلة.
الشخص الوحيد الذي لم أتجرأ على مكتبته هو الأستاذ محمد جسار رئيس تحرير صحيفة رأي، فقد كان كريما لايبخل إذا طلبته، وذات يوم طلبته كتاب الحوارات الصحفية مع نزار قباني فقال خذه لك هدية، وأيضا الحرب الثقافية الباردة، وغيرها من الكتب، ونمت ذات ليلة في منزله إلى جوار ذلك الكنز الرائع، لكني مع ذلك تسامحت مع مكتبته ولم أمسها بسوء.
كما نجت مكتبة الأستاذ حسن عبدالوارث، حيث زرتها أكثر من مرة في منزله بصنعاء، وماتسبب بنجاة المكتبة هو اتفاق مغري بيني وبينه أن أقوم بأرشفتها وتبويبها من جديد مقابل 25 كتاب أختارهم منها.
كان العرض مغريا بحيث أسكت شغفي لاختطاف بعض كتبه، ولكن حالت ظروف الحرب من يومها من إعادة تبويب المكتبة حتى اللحظة.
كما لم تنج مكتبة الأستاذ حافظ البكاري في المركز اليمني لقياس الرأي العام من حالة اختطاف لأحد كتبها، وكان ذلك قبل أن أشتغل في المركز، حيث وجدت كتاب كان مهما بالنسبة لي، وهو (التحقيق الصحفي فن).
حكايات اختطاف الكتب لاتنتهي، وربما ليست هذه كل ماحدث لي، بل كل ما أتذكره، فتذكروا قصصكم مع الكتب لعلكم تبتسمون..
غمدان اليوسفي، صحفي، حاصل على البكالوريوس من كلية الإعلامجامعة صنعاء، وعمل مراسلا لعدد من وسائل الإعلام العربية، بينها عكاظوإيلاف، ورأس تحرير صحيفة (رأي)، وأدار موقع مؤتمر الحوار الوطني، تحدث في الشؤون اليمنية في القنوات التلفزيونية وعدد من المؤتمرات، وكتب في عدد من الصحف المحلية والعربية.