كتب: أحمد محسن
أزمة كورونا جعلت رمضان هذا العام مختلفاً عن كل الرمضانات السابقة. أغلبنا يقضي تقريباً كل أوقاته في الدار دون خروج بسبب إجراءات حظر التجوال المطبقة في بعض الدول. وآخرون يجلسون في البيت طوعياً بسبب الخوف من انتقال المرض إليهم. وهذا على عكس طبيعة شهر الصيام. لقد قضيت رمضان في خمس دول مختلفة (مصر، المملكة السعودية، قطر، السودان، تركيا) وفي كل هذه الدول كانت السمة الغالبة أن رمضان يرتبط بالتجمعات العائلية والخروج مع الأصدقاء وصلاة التراويح في المساجد، لكن كورونا هذا العام غيّر هذه السمة.
في مصر مثلاً، يتحول شهر رمضان إلى موسم من العزائم المتصلة التي تستمر طوال الشهر. أتذكر أنه في أحد الرمضانات أفطرت مع عائلتي في المنزل أربعة أيام فقط في أول عشرين يوماً من رمضان بسبب أنه كان يتم دعوتي على الإفطار كل يوم في مكان مختلف. فما بين الإفطار عند أقاربك وأقارب زوجتك، ثم إفطارات العمل والإفطارات المرتبطة بالتجمعات المهنية التي تنتمي إليها، وانتهاءً بإفطارات الأصدقاء وزملاء الدراسة -الذين لم تلتقِ بهم منذ فترة ويكون شهر رمضان فرصة للاجتماع معهم لتذكر الليالي القديمة- يستمر الشهر في عزومات متصلة. مع هذه العزومات، فإن صلاة التراويح في المساجد تضيف بُعداً جديداً إلى التجمع في هذا الشهر. لذا فإن تجربة الصيام في مصر هي تجربة الاجتماع الدائم طوال شهر رمضان.
في المملكة العربية السعودية، كانت فرص الاجتماع أقل في هذا الشهر الكريم. الفعالية الأساسية كانت صلاة التراويح في المساجد التى تستمر كما في مصر لفترات طويلة. أثناء التراويح تقابل عدداً كبيراً ممن تعرفهم قادمين للصلاة من أماكن متفرقة. بعد الصلاة، كنا نقضي أوقاتاً طويلة ونحن أطفال في لعب كرة القدم إلى منتصف الليل أو ما قبل السحور بقليل. بهذا الشكل، يتحول المساء إلى مسار طويل من الخروجات واللعب والتلاقي مع الأصدقاء. كان يساعد على ذلك أن الحكومة في المملكة في ذلك الوقت كانت تعطي العشر أيام الأخيرة من رمضان إجازة للمدارس، فكانت هذه فرصة إضافية للعب طوال الليل والنوم طوال نهار شهر الصيام.
في السودان عادات جميلة لشهر رمضان. ففي وقت أذان المغرب تجد في شوارع كثيرة وعلى الكورنيش تجمعات كبيرة للسودانيين يٌفطرون معاً. في بعض الأحيان، تكون هذه التجمعات لأصدقاء أو معارف. لكن في أحيان كثيرة، يتم دعوة أي شخص مارّ في الشارع وقت الإفطار إلى هذه التجمعات فتتحول شوارع السودان وقت الإفطار إلى أماكن عامة للإفطار الجماعي لأناس قد لا يعلمون عن بعضهم شيئاً. وعلى الجانب الآخر، تكون هذه التجمعات نوعاً من أنواع التضامن الاجتماعي بين فئات الشعب المختلفة، حيث يقدم الناس ما لديهم من طعام إلى أناس قد لا يملكون المال الكافي للحصول على الإفطار. هي فكرة شبيهة بفكرة موائد الرحمن في مصر، لكنها في السودان أكثر وأوسع انتشاراً، وقد يقوم بها أناس ليسوا من الطبقة الغنية. بالأساس، شعب السودان شعب يحب التجمع طوال الأوقات، ومن سافر إلى الخارج يعلم ذلك مما تقوم به الجاليات السودانية من أنشطة في كل بلد.
ففي أول يوم في شهر رمضان تتجمع الجالية السودانية في كل مؤسسة للإفطار معاً بأن يقوم كل فرد بإحضار ما لديه من طعام ليتقاسمه مع باقي السودانيين. لذلك فإن شهر رمضان للسودانيين شهر للتجمع والصحبة الممتدة طوال الشهر.
في قطر، كانت التجربة المميزة في صلاة التراويح. يوجد مساجد تصلي لأوقات قصيرة وأخرى لأوقات أطول. كما كان هناك عدد من المشايخ أصحاب الصوت الجميل الذين يمكن أن تختار منهم ما تشاء لتجعل تجربة صلاة التراويح تجربة مميزة. وقت الصيام في قطر كان قصيراً -بالمقارنة بما سألقاه لاحقاً في تركيا- وهذا سيجعل من السهل القيام بأنشطة مختلفة خلال فترة النهار. الجالية المصرية الكبيرة في قطر والقريبة من بعضها مكانياً ستجعل هناك فرص أكبر للعزومات والتلاقي.
في تركيا، تجربة الصيام مختلفة عن تلك الموجودة في الدول العربية. نهار الصيام طويل جداً والجو حار في أغلب الأوقات. وفي نفس الوقت، فإن دوام المصالح الحكومية والمدارس والجامعات تستمر بالعمل تقريباً بلا أي تغيير. كل هذا يجعل نهار رمضان طويلاً وشاقاً. أما الليل فإنه قصير بشكل كبير فلا يجعل هناك فرص لفعاليات كثيرة. يذهب الأتراك إلى صلاة التراويح أيضاً، لكن صلاة التراويح في تركيا تستمر لفترة قصيرة في أغلب المساجد وتكون قراءة القرآن بها بالسور القصيرة.
لكن مع هذا، فإن الثقافة الإسلامية المنتشرة بين الأتراك -حتى غير الملتزمين منهم- تجعل رمضان فرصة دائمة للتلاقي. أثناء وقت الإفطار مثلاً، تجد المطاعم والمولات قبل وقت الإفطار بقليل في انتظار الأذان من أجل البدء في الطعام، ورغم أنه يمكن أن تجد عدداً من هؤلاء غير صائم أصلاً إلا أن هناك ثقافة عامة تحافظ على الإفطار معاً وقت المغرب حتى لو لم نكن صائمين! العزائم العائلية هي شكل آخر منتشر بين الأتراك الذين تحظى لديهم فكرة العائلة بمكانة كبيرة. لذلك فإن العزائم داخل العائلات وبين العائلات المختلفة سمة مميزة لهذا الشهر الكريم.
هذا العام، جاء كورونا فغير كل هذه العادات، ليس في هذه الدول الخمس فقط ولكن في كل دول العالم. في أغلب الدول تم منع صلاة التراويح في المساجد بل وإغلاق المساجد للصلوات العادية. وفي بعضها تم فرض حظر كلي في بعض المدن أو على بعض الفئات العمرية. أيضاً، فإن التجمعات الكبيرة أصبحت أمراً غير مرغوب فيه، بل تعمل بعض الحكومات على ملاحقتها. وطوال الليل والنهار تصدّع وسائل الإعلام رؤسنا بأهمية التباعد الاجتماعي وضرورته عبر سيل من الإرشادات والإعلانات التى لا تنتهي. لقد تحول شهر رمضان هذا العام إلى شهر من العزلة الإجبارية والخلوة المنزلية الممتدة بلا أنشطة خارجية أو خروجات عائلية. فهل فقدنا شهر رمضان هذا العام؟
ستكون إجابة أغلب القراء في تقديري، بالإيجاب. لقد فقدنا هذا الشهر الكريم هذا العام ولا نشعر به. لقد ذهبت كل العادات التي تعوّدنا عليها في هذا الشهر الكريم بسبب كورونا. ورغم أن هذا صحيح، فإن أغلبنا ينسى أن هذا الشهر الكريم قد جاء أساساً ليكون شهراً للطاعة وقراءة القرآن. لقد فقدنا أشكالاً من الطاعات والعادات الاجتماعية التي كانت تقوي الروابط العائلية والاجتماعية خلال هذا الشهر، لكن في نفس الوقت فُتح لنا باب مختلف من الطاعات والعادات الاجتماعية الجديدة.
في ظل كورونا يمكن لأغلبنا أن يصلي التراويح في المنزل مع عائلته. هكذا بالمناسبة كانت سنة النبي الكريم مع أهله في شهر رمضان حيث كانت صلاة التراويح تُصلى في البيوت وليست في المساجد. رمضان في ظل كورونا فرصة أيضاً للاقتراب من القرآن الكريم، فلا أوقات تضيع في المواصلات، ولا في التحضير للعزائم. ولا التزامات اجتماعية أو أوقات عمل طويلة. لقد أصبح لدى أغلبنا وفرة من الوقت يمكن أن يستفيد منها في القرب من القرآن في هذا الشهر الكريم.
فقدنا هذا الشهر دفء الروابط الاجتماعية مع الأقارب والأصدقاء وزملاء العمل، لكن فُتح لنا في نفس الوقت، فرصة أكبر للتقارب مع العائلة الصغيرة التي نعيش معها داخل جدران نفس المنزل لفترات طويلة. الآن لدينا فرص أكبر وأطول للجلوس مع أولادنا وأزواجنا وإعادة التعرف عليهم مرة أخرى. صديقي قال لي وهو يحدثني في التليفون، إن جلوسي في المنزل بسبب كورونا مكنني من اكتشاف أولادي!
أخيراً، فإن كورونا فرصة لخروجنا من عالم مشغول طوال الوقت نبحث في داخله عن شيء ما لا نعرفه في أحيان كثيرة من أجل الدخول في عالم من الخلوة التي يمكن أن تنبت في القلب والعقل أفكاراً جديدة وجميلة. وقديماً قال الصوفي: "ما نفع القلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة". فهل ننتفع بخلوة رمضان هذا العام التي جاءتنا بسبب كورونا؟