لموقع: درج
لم يكن أحد يتخيل أن يصبح اليمن بؤرة ساخنة من بؤر المعركة العالمية المحتدمة اليوم ضد العنصرية، وأن يتحول النقاش حول العنصرية إلى أهم نقاش تنخرط فيه قوى ثقافية وسياسية مؤثرة في البلد.
فيما فُجع العالم ببقايا العنصرية التي أدت إلى مقتل جورج فلويد في الولايات المتحدة الأميركية، فُجع اليمنيون بصدور اللائحة التنفيذية لقانون الزكاة 2020 الذي احتوى على مواد عنصرية تمييزية، لمصلحة من سمّتهم اللائحة “بني هاشم”، أو “آل البيت”، والمقصود هنا المواطنون الذين يدعون انحدارهم من نسل الحسن والحسين!
وزاد أثر الصدمة أن اليمن الذي أصبح 80 في المئة من مواطنيه فقراء بحسب الأرقام الأممية، ظهر فيه تشريع يخصص 20 في المئة من ثروات الأمة من نفط وغاز ومعادن لمصلحة أقلية اجتماعية معينة، ترى أن لها اميتازات “إلهية” في السلطة والثروة!
وكما في السياسات التمييزية، قامت هذه اللائحة على “خطاب المظلومية”. وهي مظلومية مفترضة تدعي أن الأسر الهاشمية تعرضت لنوعين من التهميش: تهميش ثوري بعد ثورة 1962 حين لم تعط الفرص ذاتها التي أعطيت لبقية اليمنيين. ومظلومية فقهية تاريخية تقول إن فقهاء المذاهب أجمعوا على أن فقراء الهاشميين لا يجوز لهم أخذ أموال الزكاة أو الصدقة، وبالتالي لا حل لهم للخروج من دائرة الفقر، إلا أن يأخذوا من أموال “الخمس” أي أموال “الغنائم والفيء والركاز”. ولأنه لم تعد هناك غنائم ولا غزوات فإن الخمس يؤخذ من ثروات الأرض من بترول ومعادن ومياه وغيرها.
لا تصمد هذه المظلومية المزدوجة أمام الحقائق. ففقراء العائلات الهاشمية عانوا ما عاناه فقراء العائلات الأخرى واتخذوا السياسات ذاتها للخروج من دائرة الفقر مثل التعليم والعمل والانخراط في المهن التي تدرّ الدخل. أما أغنياء الأسر الهاشمية فظلوا على تميزهم الاجتماعي وغرفوا من أموال الدولة ومناصبها مثل غيرهم من الأسر السياسيه والمشيخية الأخرى.
ولأن المظلوميه لا تنتهي أبداً حتى لو وصل مدعي المظلومية إلى الحكم وأصبح ظالماً، فإن صرخات “المظلومية الهاشمية” لم تتوقف على رغم أنهم صاروا المسيطرين على الأرض والبشر والمال.
المعضلة الهاشمية في اليمن حساسة ومزروعة بالقنابل الموقوتة عكس الحال في البلدان الأخرى.
أول حساسيات المعضلة الهاشمية في اليمن أن ثورة أيلول/ سبتمبر 1962 التي أدخلت اليمن العصر الحديث، كانت في جزء كبير منها ثورة ضد “الهاشمية الدينية السياسية” التي حكمت اليمنيين أكثر من 1000 عام باسم حصر الإمامة في “البطنين”. غادر معظم الهاشميين انتماءهم الضيق ودخلوا في الانتماء الوطني الواسع، وليس غريباً أن أكثر من نصف قادة الثورة على الحكم الهاشمي لبيت حميد الدين كانوا من الهاشميين العسكريين الذين تأثروا بأفكار القوميين العرب. اندمجت مظم الأسر الهاشمية مع مجتمعها ولم تعد النعرة الهاشمية بقوة إلى الوجود، إلا في فترة التسعينات مع صعود تنظيم الشباب المؤمن (أنصار الله حالياً) وتأثره بشعارات الثورة الإيرانية.
ثم عادت المعضلة الهاشمية لتتحول إلى توتر اجتماعي مكبوت بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء وعلى الجهاز الإداري كاملاً، وخصصت ما بين 80 إلى 90 في المئة من الوظائف العليا والوسطى للمنحدرين من الأسر الهاشمية دون غيرهم!
لأن المظلوميه لا تنتهي أبداً حتى لو وصل مدعي المظلومية إلى الحكم وأصبح ظالماً، فإن صرخات “المظلومية الهاشمية” لم تتوقف على رغم أنهم صاروا المسيطرين على الأرض والبشر والمال.
رفضت القوى السياسية لائحه الزكاة بما في ذلك الأحزاب الإسلامية مثل حركة الإخوان المسلمين وهيئه علماء اليمن المرتبطة بالإخوان التي قامت هي بنفسها بإدخال مفهوم الخمس إلى قانون الزكاة عام 1999 ومهدت الأرضيه المناسبة لسلطة الأمر الواقع في صنعاء لوضع لائحة عنصرية، تحصر توزيع الثروات بين اليمنيين بشكل غير عادل على أساس العرق أو السلالة.
وتقدمت الحكومة “الشرعية” بشكوى رسمية إلى الأمم المتحدة لرفض هذا القانون العنصري واتخاذ الإجراءات اللازمة بما يتناسب واتفاقيه القضاء على أشكال التمييز العنصري.
رغم ان الهاشميين متواجدين في اغلب البلدان العربية والإسلامية إلا أن خصوصية المعضلة الهاشمية في اليمن ذات شجون. فإذا كانت الهاشمية في العراق ولبنان مثلاً تدعي الدفاع والتعبير عن مصالح الطائفة الشيعية بشكل عام، فإن الهاشمية في اليمن لا تدعي الدفاع وتمثيل مصالح طائفة “الزيدية”، بقدر ما تعبر وتدافع عن مصالح الأسر الهاشمية المتضررة من السياسات التحديثية لثورة 1962.
وفي حين تحولت الهاشمية في الأردن والمغرب إلى مؤسسة سياسية مدنية يحكم فيها الملك بصفته سياسياً مدنياً محاطاً ببرلمان منتخب يحد نسبياً من صلاحياته، فإن الهاشمية اليمنية بعد عام 2014 قررت التحول إلى شيء أشبه بولاية الفقيه ذات الصبغة اليمنية، يصبح فيها الزعيم الحوثي إماماً معصوماً ومطلق الصلاحيات، يحكم من منزله المجهول في محافظة صعدة النائية، قائداً للثورة وهادياً للأمة و”علماً” فوق الدستور والقانون وفوق أي معارضة.
وفي حين ينحصر التعبير السياسي للهاشمية في الأردن وفي المغرب في عائلة واحدة هي العائلة الملكية وأفرادها المعدودين، فإن الهاشمية في اليمن متوسعة تضم عشرات العائلات التي يصل عدد أفرادها في بعض التقديرات إلى مليون شخص! عندما يدعي هذا العدد الضخم أولويته في السلطة والثروة والاجتهاد، فإن معنى ذلك أنه يصادر كل المنافذ المتاحة للحراك الاجتماعي والاقتصادي والسياسي على البقية.
كما أن الهاشمية في اليمن ليست شيعية فقط، بل هناك هاشمية سنية أيضاً ضمن المذهب الشافعي في تعز والحديدة وحضرموت، ما يعني أن الشرخ الهاشمي التمييزي سيترك أثره على كل المذاهب والطوائف والمناطق في اليمن.
تطرح لائحة الزكاة تساؤلات كثيره حول كيفيه تطبيق قانون الخُمس (20 في المئة).
هل سيقوم الحوثيون بإصدار بطاقات خاصه بـ”آل البيت” يتميزون بها عن بقية المواطنين؟ إذا حصل هذا وهو الإجراء الوحيد الذي يمكن من خلاله تطبيق هذه السياسة التمييزية، فإن معنى ذلك أن الحوثيين سيتحولون إلى نسخة شبيهة بحكومة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا عندما كانت أقلية البيض تحوز النصيب الأكبر من الثروة، وتسيطر على السلطة.
هل سيتراجعون عنه مع أنهم لن يتراجعوا عن أي سياسة سابقة مهما كان الانتقاد حاداً والرفض شديداً؟
ليس واضحاً كيف سيخوض اليمنيون صراعهم ضد العنصرية من دون حتى القدرة على النزول إلى الشارع بعد مصادرة أبسط الحقوق المدنية في التظاهر والاحتجاج. ولا يبدو أن العالم الذي دعم التظاهرات ضد العنصرية في أميركا سيلتفت إلى ما يحصل في الشوارع الخلفية للعالم.