أخفى الثلاثيني اليمني عبد الوهاب قاسم إصابته بفيروس كورونا بعد ظهور أعراض المرض عليه، في إبريل/ نيسان الماضي، رافضا الذهاب إلى المشفى من أجل إجراء الفحوصات اللازمة، مكتفيا "بمقاومة المرض بكل ما في وسعه"، ليستمر في حياته العادية، حتى أنه لم يبلغ أسرته التي تماثل أفرادها الأربعة للشفاء بعد انتقال العدوى إليهم، خوفا مما قد يتعرضون له من ضغط وعزلة ونبذ مجتمعي.
لا يستبعد قاسم أنه نقل العدوى إلى كثيرين تعامل معهم في سوق القات والحافلات، أو في حي مذبح في صنعاء، حيث يقيم، لكنه كان حذرا ولم يقترب من كبار السن، كما يقول لـ"العربي الجديد".
ومنذ الإعلان عن أول إصابة بالفيروس في صنعاء في 5 مايو/ أيار الماضي، برزت مظاهر وصم وتمييز عانى منها المصابون، وأفراد أسرهم، بحسب أستاذة علم الاجتماع بجامعة صنعاء سهير عاطف، التي قالت لـ"العربي الجديد": "الجيران يخافون منهم ويتجنبونهم، ما يجعلهم يشعرون بالوصم والعار".
والوصم المجتمعي مفهوم سيسيولوجي يتجسد في مظاهر الازدراء أو الابتعاد أو تخوف المجتمع من المريض الذي يلحقه نوع من العيب أو العار الاجتماعي، وهو ما تفاقم في الوقت الحاضر بعد انتشار كورونا، بحسب إفادة أستاذ علم الاجتماع الطبي في جامعة صنعاء الدكتور عبد الله معمر الحكيمي.
نشر العدوى
ظهرت أعراض فيروس كورونا على الثلاثينية زكية علي، في 23 إبريل/ نيسان الماضي، ومنها سعال جاف وحرارة مرتفعة وآلام في العضلات والمفاصل، ونوبات من صعوبة في التنفس، لكنها زالت في 12 مايو/ أيار الماضي، إلا أنها مثل قاسم امتنعت عن الإفصاح عن إصابتها خوفا من الإجراءات الرسمية في التعامل مع المصابين التي تصفها بالمخيفة والمرعبة، في صنعاء والمحافظات الخاضعة لسيطرة الحوثيين، موضحة أن خوفها من أن تتعرض مع طفليها اللذين نقلت إليهما العدوى، لنوع من الازدراء والمقاطعة من محيطهم، أو حتى والد زوجها المقيم معهم، هو الذي دفعها إلى إخفاء إصابتها قائلة: "لم أكن لأحتمل قسوة الشعور الناتج عن توقف جاراتي عن طرق باب شقتي للسؤال عن أمر ما، أو تبادل أغراض معهن".
طاقم عسكري يصطحب المشتبه في إصابته لمشافي العزل
مخاوف زكية تولدت نتيجة القصص "المريبة" التي سمعتها من صديقاتها عن نبذ الحالات المشتبه في إصابتها وأسرها، ما دفعها للصمت والتسبب بنقل العدوى إلى والد زوجها الستيني، الذي كان يعاني من داء السكري، ليتوفى في منزله، في 20 مايو الماضي.
معاناة قاسم وزكية تتطابق مع سبع حالات تكتمت على إصابتها بسبب خوفها من الاستبعاد المجتمعي، والازدراء والتنمر، بما في ذلك الأقرباء، ما أدى إلى نشر العدوى في محيط إقامتها بالعاصمة، وهو ما تؤكده الأكاديمية عاطف، موضحة أن إخفاء المصابين لمرضهم يقوض جهود اكتشاف المرض وعلاجه بسبب الوصم المجتمعي، ما ساهم في تزايد سلاسل المصابين بشكل سريع، وتتابع: "خشية من النبذ المجتمعي تجنب مئات الأشخاص الخضوع للفحوصات أو طلب الرعاية الطبية، ما هدد حياتهم وزاد من خطر إصابة غيرهم بالعدوى".
تزايد الوفيات نتيجة الإخفاء
يقر الدكتور عبد القدوس حرمل، مدير عام البرنامج الوطني للصحة النفسية في وزارة الصحة بحكومة صنعاء (خاضعة لسلطة الحوثيين)، بأن الخوف من الوصم المجتمعي يشكل أهم الأعراض النفسية التي تترافق مع أي كارثة وبائية. وفي اليمن فإن المخاوف من الإصابة بالفيروس، والموت، والشعور بالعجز عن حماية النفس والأهل، أو الخوف من عدم الحصول على الرعاية الطبية المناسبة، والحاجة إلى الانفصال عن الأهل لضرورات العزل الصحي، ساهمت في تجنب طلب الرعاية الصحية في المرافق المخصصة، ما أدى إلى انتشار الوباء. وهو ما وثقه معد التحقيق عبر حالة زكية علي، التي لاحظت علامات المرض على والد زوجها بعدما تماثلت للشفاء، لكن نجله الأكبر أوعز إليها بكتمان الأمر أيضاً، لأنه إذا تم إبلاغ السلطات بالحالة، فستأتي قوة عسكرية لأخذ جميع أفراد العائلة قسرا إلى مشافي العزل الصحي، ما أدى إلى وفاته، وبعد أيام قليلة فقط، شعر النجل الأكبر بأعراض الفيروس، لكن محاولات تكتمه وأسرته فشلت، إذ فوجئ بطاقم عسكري اصطحبه وأسرته من حي الصافية في صنعاء، إلى مشفى زايد المخصص للعزل الصحي، لكن سرعان ما أعادوا الأولاد والزوجة إلى المنزل، وأبقوا على الوالد في العزل بعدما ثبتت إصابته بكورونا إلى أن توفى، كما ثبتت إصابة اثنين من أصدقائه الذين زاروه قبل وفاته، ما أدى إلى وفاتهما، وأحدهما نقل العدوى لزوجته، وتوفيت أيضاً، في يونيو/ حزيران الماضي.
وتواصل السلطات الصحية في صنعاء تجنب الإعلان عن عدد الإصابات أو الوفيات بفيروس كورونا في البلاد، واقتصر الأمر على الإعلان عن أول حالة إصابة في العاشر من إبريل الماضي، لمواطن من مدينة الشحر بحضرموت، جنوب شرقي اليمن، بالإضافة إلى الإعلان عن وفاة مهاجر صومالي الجنسية في صنعاء، في الثلاثين من الشهر ذاته.
ويرجع حرمل سبب تكتم السلطات على عدد الإصابات والوفيات إلى تجنبها التعامل مع الوباء "بالأرقام"، كما فعلت الكثير من السلطات في العالم، لما يسببه ذلك من خفض لمعنويات الناس والوصمة المجتمعية والرعب، على حدّ قوله.
بينما يؤكد الحكيمي أن عدم الإعلان عن عدد المصابين والمتوفين، وكذلك المناطق التي يتفشى فيها الفيروس، لا يصب في حماية الناس، مشيرا إلى "ضرورة الإعلان عن أي منطقة تسجل فيها إصابات لمنع الناس من دخولها والاختلاط بساكنيها، والحيلولة دون انتشار الفيروس وتسجيل بدل الإصابة عشر إصابات".
ترويع من قبل السلطات
تنتقد الأخصائية الاجتماعية في نيابة ومحكمة الأحداث ودار التوجيه الاجتماعي بأمانة صنعاء، نادين الأكحلي، إجراءات السلطات في تعاملها مع الحالات التي كان يتم الإبلاغ عنها، قائلة لـ"العربي الجديد"، إن المعنيين "يأخذون المشتبه في إصابته وكأنه متهم بجريمة، بطريقة مخيفة، لا تضع اعتبارا للحالة النفسية للشخص، ولا لأسرته"، علما أن العامل النفسي يؤثر على المريض أكثر مما يؤثر عليه المرض.
لكن مدير عام البرنامج الوطني للصحة النفسية يرد بأن إجراءات وزارته نجحت في تحقيق هدفين، الأول هو تبديد الشعور بالوصم المجتمعي، والثاني هو التخفيف من الخوف الذي تسبب به الضخ الإعلامي في الأشهر الستة الماضية، ويوافقه في ذلك الدكتور يوسف الحاضري، مدير المركز الوطني للتوعية والثقيف الصحي، التابع لوزارة الصحة بصنعاء، بقوله لـ"العربي الجديد": "اعتمدنا عدم التهويل وأيضا عدم التهوين، وكانت رؤيتنا هي طمأنة المجتمع، لذلك لم نفرض حالة الحجر في البيوت ولم نفرض حالة الإغلاق ولم نتكلم بالأرقام رغم ضغوطات المنظمات الدولية وإيقاف دعمها".
بالمقابل تنفي الدكتورة سهير عاطف أن تكون إجراءات الجهات المختصة قد أوصلت تلك الرسالة للجمهور، وما حدث مع أسرة أحمد عبد الله في حي الصافية بالعاصمة، يبين الطريقة التي يُقتاد بها المشتبه في إصابته لمشفى العزل، إذ تروي ميرنا، ذات السبعة عشر عاما، ما حدث لوالدها الأربعيني قبل وفاته في مشفى زايد، قائلة: "جاء 5 أشخاص للمنزل، في 30 مايو المنصرم، اثنان منهم بزي عسكري، وثلاثة آخرون بزي مدني، شعرنا بالخوف الشديد، واصطحبوا الوالد الذي يعاني من السكري معهم".
أوعز العساكر لعبد الله بأن يصطحب أسرته معه، بحسب ميرنا، واصفة مشاعر أفراد الأسرة بالقول: "رافقنا والدي وأمي التي ذهبت معنا، كنا مرعوبين وخائفين، وضعوا والدي في سيارة والعائلة في سيارة أخرى إلى جانب الطاقم العسكري، وعندما وصلنا إلى مشفى زايد، رأينا والدي ينزل من السيارة بمساعدة اثنين يرتديان اللباس الواقي، وكانت تلك النظرة الأخيرة إلى والدي".
بعد ساعتين ونصف، عادت الأسرة إلى المنزل بعدما خضعت لفحص كورونا، بينما بقي عبد الله لتلقي العلاج، وفي الثاني من يونيو/ حزيران الماضي استقبلت زوجته نبأ وفاته، إذ أخبرها طاقم المشفى بأنهم بحاجة إلى الإذن لدفنه، وليس مسموحا لأحد أن يراه خوفا من انتقال العدوى. تقول ميرنا، وهي تختنق بالدموع، إن ما زاد الطين بلة "مقاطعة الآخرين لنا. كان يجب أن يأتي إلينا من يواسينا، لكن لا أحد فعل"، وهو ما تعيده الأكاديمية سهير عاطف إلى طبيعة الإجراءات التي تتعامل بها الجهات المختصة مع المصابين أو المشتبه في إصابتهم، إذ يوثق التحقيق من خلال المقابلات أن اصطحاب المصاب للعزل بواسطة المسلحين الذين يحضرون مع سيارة تابعة لوزارة الصحة، يبث شعورا بالخوف لدى المرضى وعائلاتهم.
ولا يقتصر الخوف من الوصم الاجتماعي على المرضى، إذ أخفى الممرض في مشفى الشيباني الخاص بصنعاء، نادر عبد الله، إصابته بكورونا، لينقل العدوى إلى خمسة من أفراد أسرته، كما شارك بعض ذوي المرضى بكتمان أمر إصابة أحد أفراد أسرهم، بسبب تخوفهم من الإهمال في مشافي العزل الصحي ومن الرفض المجتمعي، ومنهم أبناء الخمسينية أم نشوان، وهي واحدة من المصابين الذين أشرف عليهم عبد الله، ورفض أبناؤها نقلها إلى المشفى، رغم أن حالتها كانت حرجة كما أظهرت أشعة الصدر والفحوصات التي أجريت لها في مشفى الشيباني، لكنهم تكتموا على الأمر واهتموا بها في المنزل، ولما عرف أهل حي السنينة في العاصمة بأمر إصابتها، تعرضت الأسرة للازدراء، حتى وصل الحال ببعض سكان المنطقة إلى محاولة منع أبنائها من دخول الحي، كما يروي ابنها. والحال نفسه بالنسبة للأربعيني محمد علي، الذي قال: "في مراكز العزل الصحي لا أحد سيهتم بك، ومصيرك هناك الموت".
الصورة
غياب الثقة في مشافي العزل
يؤكد أخصائي الأنف والأذن والحنجرة في مشفى الشيباني، الطبيب عبدالله غمضان، افتقار غالبية المواطنين إلى الثقة بإجراءات السلطات الصحية، في التعامل مع الوباء وتحديدا مع الحالات التي ثبتت إصابتها أو المشتبه في إصابتها.
ويروي الممرض عبدالله لـ"العربي الجديد" عن حالات كثيرة تكتمت على إصابتها، بسبب خوفها وعدم ثقتها بالإجراءات الصحية في مشافي العزل، ومنهم شخص في منطقة الحيمة الخارجية، التابعة لصنعاء، تم الإبلاغ عنه من قبل آخرين بأنه مصاب بالفيروس في 12 مايو الماضي، فأرسلت السلطات في صنعاء إليه طاقمين عسكريين لأخذه عنوة إلى إحدى المستشفيات المخصصة لاستقبال الحالات، لكن المفاجأة أن الرجل قاومهم بالسلاح وفر هاربا إلى الجبل، ومكث هناك 14 يوما، ليعود الى القرية بكامل صحته، ويبرر فعلته لأهالي منطقته بالقول :"لو أني ذهبت معهم إلى المستشفى، لكنت في عداد الموتى". وما أخاف الرجل تسجيل أعداد كبيرة من الوفيات بكورونا في تلك الفترة داخل مستشفيات العزل الصحي.
ويضيف عبدالله، من واقع تجربته أن نسبة كبيرة من الحالات التي يشتبه في إصابتها، ترفض بشدة الذهاب إلى المستشفيات المخصصة للعزل، كما أنهم ينكرون إصابتهم بالأعراض، ويفضلون العودة إلى منازلهم والموت فيها، على الذهاب إلى المستشفيات، بسبب ما كانوا يسمعونه عن موت المصابين داخل مراكز العزل، مثل مريض بالربو ، أصيب بالفيروس، وجاءت قوة عسكرية أخذته إلى مستشفى الكويت، ولكته توفى في اليوم الثاني مباشرة.
وتوضح الأكاديمية سهير عاطف، أن الناس امتنعوا عن الذهاب للمستشفيات بسبب الشائعات، وأيضا لأسباب أخرى مثل عدم توفر تجهيزات ملائمة لاستقبال المصابين بالفيروس، مثل أجهزة التنفس الصناعي، والفحوصات الخاصة بالفيروس، بالإضافة إلى عدم السماح لأفراد أسرة المصاب بزيارته والاطمئنان عليه، خاصة أن معظم الحالات التي أدخلت إلى المستشفيات لم تتعاف، وتوفيت فيها.